قصص منوعة

أحياء يرزقون

أحياء يرزقون

كدت أطير من السعادة عندما أعطاني والدي المبلغ الخاص باشتراك الرحلة التي أعلنت عنها مدرستي الإعدادية ،

خاصة وأن برنامج الرحلة كان يتضمن زيارة العديد من الأماكن الأثرية بالقاهرة ،

فبالإضافة لولعي الشديد بالتاريخ ، كانت تلك هي زيارتي الأولى للقاهرة.

لم يغمض لي جفن في تلك الليلة ، نهضت من فراشي مبكرا ، إرتديت ملابسي ، وضعت الشطائر التي أعدتها والدتي في حقيبتي ،

وانصرفت مسرعا للحاق بالحافلة ، التي أخبرونا بأنها ستكون بانتظارنا أمام المدرسة في تمام السابعة صباحا.

كانت وجهتنا الأولى لقلعة صلاح الدين ، كان المكان رائعا بحق ، شعرت بعبق التاريخ يحيط بي من كل جانب.

من هنا خرجت حملات ذلك القائد العظيم لتحرر القدس ، من هنا بدأ محمد علي في التأسيس لبناء مصر الحديثة ،

من هنا خرج إبراهيم باشا على رأس الجيش المصري ليلقن كل من تسول له نفسه الطمع في البلاد درسا قاسيا.

شعرت بانبهار شديد مما أرى ، منذ وطأت قدماي للمكان ، شعرت بأنني عدت بالزمن للوراء ،

كل حجر حولي شاهدا على الكثير من القصص التي حدثت هنا ،

ربما تطأ أقدامي الأن أرضا قام بالسير عليها واحدا من العظماء الذين كانوا هنا قبل مئات السنين ،

بمجرد أن خطرت تلك الفكرة على ذهني ، حتى شعرت بقشعريرة تجتاح جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي.

أثناء تجولي لفت إنتباهي وجود متحف الجيش المصري ، هرعت بسرعة للدخول ،

أخذت أتفقد كل ما تقع عليه عيني بانبهار شديد.

وجدت لوحة شرف مدون عليها أسماء شهداء الشرطة في موقعة الإسماعيلية في الخامس والعشرون من يناير سنه ١٩٥٢.

أخذت أطالع الأسماء باهتمام.

لفت إنتباهي إسم واحد من هؤلاء الابطال ، الذي يتشابه إسمي مع إسمه محمد محمد البياع.

ولأن لقب عائلتي لا يعد دارجا ، توقفت كثيرا أمام اللوحة المدون عليها الإسم ،

أخاطب نفسي بأنه ربما يكون هناك صلة قرابة بيني وبين ذلك البطل.

1 3 4 10 1 3 4 10

طوال الرحلة لم يكف عقلي عن التفكير فيما رأيت ، حتى عدت للمنزل وأخبرت والدي بالأمر ،

إقرأ أيضا: تسلل يهودي حسن الوجه والثياب لمجلس المأمون

فأكد لي بأن ذلك البطل بالفعل من نفس عائلتنا ، وأنه أخ لجدي ، توفى في سن مبكر.

شعرت بالفخر الشديد ، انتابني الفضول لمعرفة المزيد عنه.

طلبت من والدي أن يحدثني عنه ، أجلسني بجواره وهو يحتضنني بقوة ، وبدأ يسرد لي ماحدث وفقا لما أخبره به جدي.

فى صباح الجمعة ٢٥ يناير ، إستدعى القائد الإنجليزي بمنطقة القناة الجنرال أكسهام ، ضابط الإتصال المصري ،

ليسلمه إنذار بأن تسلم قوات الشرطة المصرية أسلحتها للقوات الإنجليزية ،

وتقوم بإخلاء مبنى محافظة الإسماعيلية وتسلمه للإنجليز ، على أن تنسحب القوات المصرية من منطقة قناة السويس بالكامل.

ما أن تسلم الضابط المصري الإنذار ، حتى بدى على وجهه الغضب الشديد ، وظهر ذلك بوضوح وهو يتحدث للجنرال قائلا :

ليس من حقك تقديم ذلك الإنذار ، كيف يمكن أن نترك أرضنا ونجعلها مرتعا لكم!

نهض الجنرال من خلف مكتبه ، بعدما تملك منه الغضب وهو يصرخ قائلا :

أنتم تقومون بإيواء المجرمين والمخربين بداخل مبنى المحافظة ، مدعين أنهم يؤدون دورا وطنيا.

رد الضابط قائلا : هذا الكلام عار من الصحة.

رد الجنرال قائلا : لقد تأكدت بنفسي ، وإذا لم تسلموا مبنى المحافظة فسوف تروا ما لا تحمد عقباه.

نهض الضابط المصري غاضبا ، وخاطبه قائلا :
إذا حاولت الإقتراب من هناك فسوف ترى من جانبنا ما لا يرضيك.

قالها وانصرف مغادرا حجرة المكتب ، تاركا خلفه الجنرال وقد بلغ به الغضب مبلغه.

ما أن عاد لمكتبه بمبنى المحافظة ، حتى قام بالإتصال على الفور بمكتب وزير الداخلية فؤاد سراج الدين ،

الذي أتى رده مؤيدا للقرار الذي أتخذه ، وأصدر أوامره برفع حالة الإستعداد للدرجة القصوى ،

وإذا حدث واقترب أي جندي بريطاني من مبنى المحافظة أن يتم إطلاق النار عليه على الفور.

شعر الضابط ببعض الراحة النفسية ، فلقد كان متخوفا من أن يأتي الرد على نحو مخالف.

قام بضغط الذر الموضوع على مكتبه ، لم تمر بضعة ثوان حتى سمع طرقات على الباب ،

إقرأ أيضا: فتاة عزباء تنام في بيت شاب يبلغ من العمر 20 عاما

قام بعدها الطارق بفتح الباب ، وهو يؤدي التحية العسكرية.

سأله الضابط قائلا : هل اللواء أحمد رائف واليوزباشي مصطفى رفعت مازالا متواجدين ، أم إنهما ذهبا لصلاة الجمعة؟

إنهما متواجدان يا سيدي.

أومأ الضابط برأسه برضا ، ونهض من خلف مكتبه متوجها إليهما.

تبعه الجندي كعادته ، إستدار إليه وهو يخاطبه قائلا :

إذهب يا بياع لجنود الحراسة حول المبنى وأخبرهم اذا رأوا أي جندي بريطاني يقترب ،

فاليطلقوا النار مباشرة بدون الرجوع للقادة.

حسنا يا سيدي

أردف البياع قائلا : هل الأمر خطير لهذه الدرجة؟

لقد هدد قائدهم بأنهم سوف يقتحموا مبنى المحافظة بالقوة إذا لم نسلم لهم.

بدى الغضب على وجه البياع وهو يرد قائلا :
لن يدخل جندي بريطاني إلا على جثثنا.

ربت الضابط على كتفه وتركه وانصرف.

خرج محمد البياع لإخبار الجنود بالأوامر التي أخبره بها المقدم شريف العبد قبل قليل.

لم يمض وقت طويل حتى خرج ، كل من اللواء أحمد رائف واليوزباشي مصطفى رفعت من الإجتماع الذي جمعهما بضابط الإتصال ،

شريف العبد متوجهين للفناء الأمامي لمبنى المحافظة.

لم تمر دقيقة بعد إطلاق النفير ، حتى كان جميع الجنود قد اصطفوا أمام القادة الثلاث.

أخذ اللواء رائف يتفقد الحضور ، وبعد برهة تحدث إليهم قائلا :

بالتأكيد جميعكم على علم بالظروف العصيبة التي نمر بها ، والتهديد الذي تلقيناه من ذلك الجنرال البريطاني ،

ولا داعي لأن أخبركم بأننا سوف نقاتل جميعا جنبا إلى جنب إذا تطلب الأمر ذلك ،

لا فرق بين لواء وجندي ، فكلنا أبناء هذا الوطن ، كرامته من كرامتنا ، وإذا إستدعى الأمر سنموت جميعا فداء له.

إقرأ أيضا: دخل الجراح سعيد إلى المستشفى بعد أن تم إستدعائه

ألهبت كلماته حماس الجنود ، فاضت أعينهم بالدمع ، أقسم الجميع على الدفاع عن مبنى المحافظة ،

حتى لو أزهقت أرواحهم فداءا له ، كان مشهد ملحميا بحق.

مع أخر كلمات اللواء رائف ، إرتفعت أصوات المؤذنين معلنة موعد صلاة الجمعة ،

صمت الجميع حتى إنتهاء الأذان ، الذي ما أن فرغ ، حتى رأى الحضور جنديا يركض مسرعا نحوهم.

ما أن توقف أمام اللواء رائف حتى قام بإعطائه التحية العسكرية ، فبادله ذلك الأخير إياها ، وهو يتسأل قائلا :

من أنت ، وما الذي حدث؟

جندي إستطلاع إبراهيم مرقص ، جئت لأخبرك يا سيدى بأن هناك قوة مكونة من أكثر من ألف جندي بريطاني تتحرك في الطريق قادمة نحو مبنى المحافظة.

أومأ اللواء برأسه ولم يرد ، والتفت مخاطبا اليوزباشي مصطفى رفعت قائلا :

إبدا في تنفيذ الخطة الدفاعية على الفور .
حسنا يا سيدي.

إستدار نحو ضابط الإتصال شريف العبد قائلا :
أخبرهم في القاهرة بما استجد ،

وأرسل إشارة لجميع أقسام الشرطة المتواجدة بالقرب منا بأن يقوموا برفع درجة الإستعداد للدرجة القصوى ،

على أن يشتبكوا على الفور مع من يحاول الإقتراب منهم على مسافة خمسون مترا.

إنصرف ضابط الإتصال بسرعة لتنفيذ الأمر.

عاد اللواء رائف ينظر للجنود المصطفين أمامه وكأن على رؤسهم الطير ، وخاطبهم قائلا :

سمعة مصر أمانة بين أيديكم ، لن ننسحب ولن نستسلم ،

إما أن ننتصر أو أن يمروا فوق أجسادنا.

هيا ليسرع كل منكم للقيام بدوره حسب الخطة.

إنصرف الجنود مسرعين كل منهم لموقعه.

أغلق باب المبنى ، بعدما وضعت أمامه المتاريس والكثير من أجولة الرمال ،

التي سوف يحتمي بها الجنود ، أشهر الجميع أسلحتهم إستعدادا لظهور الجنود البريطانين.

لم تمر سوى دقائق معدودة ، حتى بدأ أول الجنود البريطانين في الظهور شاهرا سلاحه يتبعه الباقيين.

إقرأ أيضا: أبي غياث المكي وزوجته لبابة

كان أول من رأهم محمد البياع ، المتمركز أمام باب المبنى ، والذي خاطب عبد المجيد حشيش الواقف بجواره قائلا :

هاهم قد جاءوا.

قالها وهو يشير بيده إليهم ، نظر ذلك الأخير حيث أشار صديقه ، زاد من ضغط أصابعه على سلاحه ، ورد قائلا :

سوف نقوم بدفنهم هنا.

قام محمد البياع بشد أجزاء سلاحه ، ليكون على إستعداد للإشتباك مع القوات البريطانية التي تتقدم نحوهم ببطئ ،

على هيئة طابورين يسير فيهما الجنود خلف بعضهم البعض.

كان الخبر قد إنتشر في كافة أرجاء المدينة ، فبدأ الكثير من الفدائين ورجال المقاومة الشعبية بالإنضمام للجنود أمام مبنى المحافظة.

إرتفعت أصوات أئمة المساجد تخبر الناس بما يحدث ، داعين كل من يستطيع حمل السلاح ، بالتوجه سريعا لمبنى المحافظة.

لم تدم حالة الهدوء الحذر طويلا ، وضع البياع سلاحه في حالة الإستعداد ، دقق النظر نحو الجندي الأول في الصف الأيمن، تحدث ل عبد المجيد قائلا :

قم بالتصويب على الجندي الأول في الصف الأيسر ، قم بإطلاق النار بعدما أطلق مباشرة.

حسنا.

لم تمر بضع لحظات حتى كان قد أطلق النار ، وكذلك فعل عبدالمجيد ، سقط الجنديان أرضا.

أصابت المفاجأة الإنجليز بحاله تخبط ، أخذ الجنود يركضون يمينا ويسارا ،

محاولين الإختباء من الجحيم الذي فتح أبوابه على مصرعيهما في وجوههم.

لم يكن في مخيلتهم أن يطلق عليهم المصريين النار ، كانوا يتوقعوا أنهم ذاهبون في نزهة ،

وبمجرد أن يراهم القائد المصري سوف يأمر جنوده بالإستسلام وينتهي الأمر سريعا ، لكن ما حدث لم يخطر لهم على بال.

إقرأ أيضا: يوم مشؤوم أغبر ليس فيه نور!

أمر القائد الإنجليزي رجاله بالتراجع للخلف ، وتقدمت ست دبابات لخط المواجهة وبدأت في إطلاق نيرانها بشكل مكثف لساعة كاملة.

كانت المعركة غير متكافئة على الإطلاق إذ إستخدم البريطانيين كل ما لديهم من مدافع ودبابات وسبعة آلاف جندي ،

في مواجهة قرابة تسعمائة جندي مصري لا يحملون سوى بنادقهم الخفيفة.

قاتل الجنود المصريين ببسالة تعجب لها البريطانيين ، ومع غروب الشمس نفذت ذخيرة الجنود المصريين ،

وتوقف إطلاق النار ، بعدما استشهد البياع وعبدالمجيد وأربع وخمسون أخرين ، وأصيب ثلاث وسبعون رجل.

أما على الجانب الآخر فقد خسر الإنجليز ثلاث عشر قتيلا وإثنان وعشرون جريحا.

ومع منتصف الليل تمكن الفدائيين المصريين من خلال الكثير من الهجمات المتلاحقة من قتل ثلاث وثلاثون فردا ،

بالإضافة لإصابة تسع وستون أخرين.

بعدما فرغ والدي من حديثه ، رأيته يقاوم دمعه أبت إلا أن تسقط من عينيه من شدة تأثره بما ذكره ،

لم أستطع أنا أيضا أن أتمالك نفسي ، أخذت أبكي بشدة ، بعدما قمت بقراءة الفاتحة على أرواح هؤلاء الشهداء الطاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?