أسبل عينيه حين استراح من شقاء ذلك النهار فقد كانت الأخشاب التي حملها على ظهره ثقيلة ،
غطس في بِركة من الأحلام التي لم تجد إلى حياته طريقا وإنما إكتفت بالحوم حوله حين يسير أو ينام ،
حول مدفأته التي بناها في أواخر الصيف.
تجمع أولاده فقد كانت ملابسهم لا تقي من برد الشتاء اللاسع ، أما زوجته التي شارفت على الخمسين من عمرها ،
أخذت تنظف حبات العدس من الأتربة والشوائب لتحضير شوربة تخمد نار الجوع اللاهب في أمعائهم.
كانت النار تأكل الأخشاب كَدُب جائع إفترس أرنبا صغيرا ، والأب بدوره يُلقِمُها الخشب كلما خَفَّ لهيبها ،
أما راما التي كانت تَعرف أماكن سُقوط قطرات الماء من سَقف بيتهم ،
وضعت صحوناً حتى لا يبتل الفراش الرقيق الذي يستر أرضية البيت الترابية.
بدأت رائحة الشوربة تنتشر وتدغدغ أنوفهم التّواقة لروائح الطعام اللذيذ.
ينظرون إلى الطنجرة النحاسية كما ينظر صقر جارح إلى أفعى تحاول الخروج من جحرها.
حان الوقت للأكل ، وزّعت الصحون بينما قام الأب بتوزيع قطع الخبز على الأبناء لتغميسها ولتساعد على ملء بطونهم الفارغة.
أما في الخارج فالأمطار لم تدع لليل هدوءا ولا سكونا.
بدأ الأب يقص الحكايات لأبنائه بعد تناول عشائهم ،
بينما زوجته تُدَلك له كتفيه اللذين صبغا بالأحمر نتيجة لحمل الأخشاب على ظهره.
كل ذلك كان قبل عشر سنين حين كان الفقر يُخيّم على حياة هذه العائلة ،
ولقد غادرت حياة الفقر حين قام هذا الرّجل بإرجاع عِقدٍ من الألماس وجده في محفظةِ سيّدة قد سقطت بالقرب من قصرٍ جميل.
فكر وتردد كثيرا ، فالإغراء الذي راوده لم يحدث مع أحد وخاصة في حالته المالية التي تَصْعُب على الكافر.
إقرأ أيضا: الراقصة والعلم
كانت سيدة ثريةً زوجها مدير بنك وطني ، طرق الباب في مساءٍ بارد ،
خرجت الخادمة حيث لم يرق لها أن تُطيل الحديث معه حينما سأل عن السيدة ،
فقد ظنته كالعادة متسوّلاً يعرفُ أين يجد المال ،
ولقد إستدل على العنوان من بطاقة هويتها.
سُمح له بالدخول ، سألته السيدة : هل لك حاجة من الزيارة؟
قال لها : ولم تبدُ عليها علامات الإنزعاج لفقد شيء ، هل أضعت شيئاً ثميناً سيدتي؟
ترددت في الإجابة ثم قالت : نعم.
وصفت له المَصاغ الضائع ، فلما تأكد ، ما كان منه إلا أن أخرج كيساً وأعطاها إياه.
لم تتمالك السيدة نفسها من الدهشة ، جاشت عيونها بالدموع ، أسرع بها الفكر ، كيف لهذا الفقير أن يقوم بهذا العمل؟
حينها أخذت عنوانه بعد أن أجبرته على تناول طعام العشاء.
ولما خرج من البيت بعد سماع كلمات الشكر ، أرسلت خادما يتتبعه حتى عرف بيته.
وفي صباح يوم مشمسٍ أفاق وحمل فأسه ليذهب ويحتطب ولما فتح باب بيته حتى وجد كيساً معلقاً به ،
دُهش في البداية ثم حمل الكيس وفتحه.
لم تُسيطر عليه لحظةُ دهشةٍ كما كانت هذه المرة ، فلقد كان الكيس يحتوي على خمسين قطعة ذهبية.
حمل فأسه وذهب للجبل وكأن شيئا لم يكن.
في المساء إجتمعوا كعادتهم تناولوا البطاطا الحلوة المشوية.
ظلّ الأب سارحاً ويكسوه صمت ثقيل ، سألته زوجته: لست على عادتك ، ماذا جرى لك؟
وخزهُ السؤال كإبرةٍ ثم بكى.
تعجب الأطفال وتعلقوا به فهذه المرة الأولى التي يبكي فيها والدهم.
قالت راما : ما يبكيك يا أبي؟ قال لهم : هل تحبون الغنى؟
ضحكوا لكون الغنى مستحيلاً لهه ، قال لهم : هل رأيتم الذهب ولمستموه؟
هزّوا رؤوسهم بالنفي.
أخرج الكيس وفتحه أمام عيونهم ، إنبهروا من المنظر وهوله ،
ناولهم القطع الذهبية حتى يلمسوا ما كانوا محرومين منه ،
بينما هم يُقلّبون القطع الصفراء راح يقصّ عليهم كيف وصلت إلى أيديهم ، أما زوجته فقد بللت وجهها بدموع الفرح.