إمرأة أربعينية ضئيلة الجسد ملامحها تدل على جمالها الداخلي ومحت الظروف بريق عينيها الذي يضيء ،
عندما تنظر في ألبوم صورها القديمة مع زوجها المرحوم الذي رحل باكرا تاركا إياها وطفلين صغيرين ،
عانت في تربيتهم وحدها وينطفئ عندما تعود من رحلة الذكريات إلى أرض الواقع.
عملها كمعلمة صف للمرحلة الإبتدائية مناسب لشخصيتها تماما فهي تحب الأطفال وتجيد التعامل معهم ،
ورزقها الله بال طويل فلا تمل ولا تضجر من مطالب الصغار مما جعلها من أنجح معلمات بلدتها الصغيرة في دلتا مصر ،
محبوبة من الجميع جيران وزملاء وطلبة أو حتى أولياء أمور الطلبة.
اليوم تشعر بشعور غريب من الإرهاق والتعب وحيث أنه أول يوم في العام الدراسي الجديد ،
فقد إستعاذت من الشيطان الرجيم وقامت مسرعة حرصا على مصلحة طلابها وحباً لعملها ،
ولم تنسى أن تحمل في حقيبتها بعض الحلوى والهدايا البسيطة من أقلام وغيرها لتكافئ بها الطلاب المتميزين علما وخلقا كعادتها.
في طريقها للخروج طلب إبنها مبلغ من المال ليشتري مذكرات هامة ،
حيث أنه طالب ثانوية عامة وعدته أنها ستدبر الأمر فور عودتها من المدرسة ،
كما طلبت إبنتها مبلغ من المال لشراء حذاءا جديداً وكذلك وعدتها بتدبير الأمر عند عودتها.
واتجهت مسرعة لتلحق بدفتر الحضور والإنصراف قبل غلقه وتحضر الطابور المدرسي ،
اليى سيطول اليوم بسبب بداية العام الدراسي.
وصلت المدرسة في الموعد المناسب كعادتها وتوجهت للطابور الذي ما أن إنتهى ،
حتى ذهبت مسرعة إلى الفصل لتبدأ مع طلابها الجدد وكان فصل ١/٢ طلابها من العام الماضي ،
وتعرفهم فرح بها التلاميذ وتوالت السلامات والترحيبات بينهم وبينها ،
وبينما هي ترحب بكل منهم لاحظت إحدى التلميذات كانت تعرفها عن قرب بنت جميلة مهذبة وذكية ،
إقرأ أيضا: فتح المعلم منفعلا باب الإدارة دافعا بالطالب إلى المدير
تعودت على أن تراها منمقة وترتدي بنظام وأناقة ولكنها لم تكن كذلك اليوم وجدتها مبعثرة الهيئة ،
ووجهها لا يضحك أبداً وعيناها ممتلئة بالدموع.
كانت تعلم أن والدتها ماتت في حادثة منذ عدة أشهر لكنها لم تكن تدرك أن موت أمها سوف يحولها من طفلة مرحة أنيقة ،
إلى طفلة حزينة مبعثرة الهيئة على هذا النحو.
إقتربت منها ورحبت بها واحتضنتها وكأن ذلك الحضن كان إشارة البدء لإنهمار دموع الطفلة على نحو تقشعر له الأبدان.
أخذت الطفلة إلى خارج الفصل وطلبت من إحدى الزميلات أن تحل محلها في الفصل ،
حتى تعود وانزوت بها لتعرف ما يبكيها ولم هي على هذا النحو.
ببراءة الطفولة التي قست عليها الأيام فأنطقتها بلسان الألم ،
بدأت الطفلة تقص على مس فوزية كما كانت تناديها تلميذاتها وتلاميذها كيف أنه منذ وفاة والدتها لم يعتني بها أحد ،
حيث والدها يعمل في الخليج وتركها عند جدتها العجوز البخيلة التي لا تهتم لأمرها.
وتأخذ ما يبعث به الأب من أموال لنفسها وتنفق القليل على الطفلة حتى أنها لم تشتري لها زى جديد أو حذاء أو شنطة للمدرسة ،
كما كانت تفعل أمها حتى أنها لا تعرف كيف تصفف لها شعرها ولا تهتم بمذاكرتها أبدا.
دمعت عيون مس فوزية والطفلة تفرغ ما كتمته في جوفها من قهر وخوف وحاجة لشهور ،
ثم حاولت تهدئتها بقليل من الكلمات ووعدتها بمتابعة مذاكرتها بنفسها ،
وعادت للفصل وما إن إنتهت الحصة حتى ذهبت إلى حجرة المدرسات لتقوم بإعداد دروسها المقبلة ،
لكنها سرحت تفكر في الطفلة اليتيمة وفي عمق تفكيرها قطعة صوت إحدى الزميلات التي جاءت لتعطيها مال الجمعية التي كانت تشترك بها مع الزملاء بالمدرسة ،
وجاء دورها لتقبض مبلغ من المال فرحت بالمال حتى تلبي طلبات أولادها الذي وعدتهم بها قبل خروجها للمدرسة.
وعادت تفكر في الصغيرة وكيف يمكنها مساعدتها كانت تعرف جدة الفتاة فالبلدة صغيرة بما يكفى ،
ليعرف الناس بعضهم عن قرب كما كان بيت الجدة التي تقيم معها الفتاة قريبا من بيتها.
إقرأ أيضا: الحرف الذي لا يعد من الأبجدية
بعد تفكير عميق أنساها كوب الشاي الساخن الموضوع أمامها والذي كان يلفظ أنفاس حرارته الأخيرة ،
وتتلوى الأبخرة الخارجة منه كالأشباح الباهتة أمامها.
إبتسمت فجأة وأزاحت كوب الشاي وتناولت هاتفها المحمول واتصلت بإحدى الجارات ،
حصلت على رقم هاتف جدة الفتاة وطلبت رقمها فوراً وعرفتها بنفسها قائلة أنا فوزية بنت أنيسة التي كانت جارتكم زمان ،
الذي يقع بيتنا في آخر شارعكم تعرفت عليها الجدة مرحبة بها وبعد حديث طويل أشبع فضول العجوز ،
وقرب بينهم قالت فوزية للجدة أنها تعمل في مدرسة حفيدتها كما تعلم وأقنعتها إنها من حبها لها وللعلاقة التي كانت تربط أمها المرحومة بها ،
قررت أن تساعدها في رعاية الفتاة وأنها سوف تستذكر لها يومياً بعد العودة من المدرسة ،
وتذهب إلى جدتها على موعد النوم كما أنها ستمر يوميا قبل المدرسة لتأخذها معها وتصفف لها شعرها ،
وتساعد في إلباسها الزي للمدرسة.
وافقت الجدة وكأنها تخلصت من حمل ثقيل كانت تلك الحيلة التي إهتدت إليها حتى يتسنى لها الإهتمام بالفتاة ورعايتها ،
وفكرت ثم أخذت الفتاة عقب المدرسة واشترت لها من مال الجمعية التي قبضتها اليوم زياً كاملاً وحقيبة مدرسية ،
وأوصلتها عند الجدة وقالت لها أن ذلك الزي هدية تفوق الفتاة العام الماضي ،
وأنها تفعل ذلك كل عام مع الأول على صفها وهذا العام الجائزة كانت من نصيبها.
فرحت الجدة ونظرت الفتاة إلى مس فوزية نظرة ذات معنى فردت لها مس فوزية النظرة مع غمزة وإشارة ،
ورجع بريق عين الفتاة وحماسها وقبل أن تغادر باب المنزل نادتها الفتاة مس فوزية ثم جرت إليها دامعة العين ،
لتحتضن قدميها فجأة حتى بللت دموعها ملابس فوزية التي إنحنت تقبل رأس الفتاة وتخرج دامعة نحو بيتها وقلبها يرتجف من الفرحة.