إنكسار

إنكسار

ذلك الوجه الذي ترك عليه الزمن آلامه وأوجاعه ، تلك التجاعيد التي نحتت تاركة بصمتها ،

لتكون خير دليل على صعوبة الحياة التي عاشها ، نظرة عيناه التي لم يعد يدهشها شيء ،

ضحكته التي نسي صوتها منذ زمن بعيد ، الشيب الذى يغطى رأسه ولحيته ، ملابسه الغير مهندمة والتي لم يعد يهتم لأمرها كسابق عهده.

يجلس بجوار ذلك السور الحديدي لجامعة القاهرة ، يفترش الارض ،

أمامه الكثير من الكتب التي يببعها ، أو هكذا يحاول أن يوهم نفسه بأنه يفعل.

منذ أسبوع كامل لم يبع كتاب واحد ، لم يعد يمتلك سوى بضعة جنيهات تكفيه بالكاد للعيش للغد ،

يرفض بشدة الصدقات التي يعرضها عليه المارة ، فهو يمتلك كبرياء وعزة نفس واضحة برغم فقره واحتياجه الشديدين.

المعاش الذي يتقاضاه لا يكفي عشرة أيام ، لذلك فكر في أن يبيع مكتبته الخاصة التي أنشأها بمنزله منذ ما يقرب من أربعين عاما ،

لعلها تساعده في نفقاته اليومية ، بعدما أصبح وحيدا بعد وفاة زوجته ،

في بداية الأمر أحس بأنه يبيع أطفاله بالرغم من أنه لم ينجب ، تردد كثيرا ولكن مرارة الإحتياج ، والحاجة للطعام كانت أقوى من كل شيء.

كان يظن أنه بمجرد أن يرى الناس الكتب التي يبيعها سوف يتهافتون عليها ، كانت أخر خيبات الأمل عندما لم يعيره أحد أي إهتمام.

وكأن بضاعته لم تعد مرغوبة وليس لها سوق كأنه يبيعها للناس الخطأ في الوقت الخطأ ،

إقرأ أيضا: طاقة المكان التلوث السمعي والبصري

يتذكر أنه قام بشراء تلك الكتب بعشرات الآلاف من الجنيهات ،

نصحه أصدقاء كثيرين سابقا بعدم جدوى صرف كل تلك الأموال في شراء الكتب ، وأن يؤسس مشروع يساعده على المعيشة.

دوما ما كان يسخر منهم ، ويكون رده عليهم (بأنهم لا يفقهون شيء وأن الثقافة والعلم أهم من كل أموال الدنيا)

ابتسم عندما أيقن كم كان أحمق وهم على حق.

أثناء إنغماسه في تلك الذكريات ، إقترب منه شاب يسأله عن كتاب (لإبن خلدون) ،

أمسك بالكتاب وناوله إياه ، شكره الشاب كثيرا ، وسأله عن سعره.

الموجود معك لن نختلف
تردد الشاب ورد قائلا :

في الحقيقة لا أمتلك أي نقود الآن ، ولكن هل يمكنني حجزه حتى الغد ،

سوف أعود لأخذه
لا ، تفضل الكتاب واعتبره هدية.

نظر إليه الشاب والفرح يتطاير من عينيه ، أمسك بالكتاب وهو يشعر أنه حصل على كنز كبير.

راقب الشاب حتى انصرف مبتعدا ، خاطب نفسه بحزن قائلا :

(ها هو مخبول آخر سوف يجلس بجوار سور الجامعة بعد سنين)

بعد فترة شرود أفاق على صوت شاب آخر يسأله عن كتاب (لإبن كثير) أجابه بأنه موجود
خاطبه الشاب قائلا :

كم ثمنه؟
الموجود معك

سوف أعطيك خمس جنيهات.
قليل جدا ، إجعلهم خمسون

رد الشاب بتعجب :
الخمسين جنيها أقوم بدفعها في تناول وجبة طعام لا ثمنا لكتاب.

وأطلق ضحكة ساخرة وتركه وانصرف.

إنسابت من عينيه دمعة حزينة ، فهو لم يعد يتحمل ما وصل إليه الحال ، يشعر بأن هذا ليس زمنه وأنه وجد في المكان الخطأ ،

أكثر ما مزق قلبه ، أنه إكتشف بعد كل تلك السنوات التي أضاعها في القراءة والتعلم ، أن العمر ذهب هباء.

أخرج القداحة من جيبه ، أمسك بإحدى الكتب ، أشعل به النار ، بدأ في إلقاء كل الكتب المتواجدة أمامه في النار ،

التي أخذت ترتفع لأعلى وبدأت الناس تتجمع لمحاولة إخمادها ،

إنصرف وهو يتعجب من الذين لم يلتفتوا إليه وهو يبيع كتب نادرة تحوي الكثير من العلم ، وتجمعوا حينما أشتعلت النيران.

Exit mobile version