إني أسوس رجالا
دخل رجل إسمه جارية بن قدامة ذات يوم على أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، وكان عند معاوية ثلاثة من وزراء قيصر الروم.
قَال معاوية لجارية :
ألست الساعي مع علي في كل مواقفه؟
قال جارية : دع عنك عليا ، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ نصحناه.
قال معاوية : ويحك يا جارية ، ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية !( وهو إسم مؤنث)
قَال جارية : أهون على أهلك أنت الذين سمّوْك معاوية ، (وهي الكلبة التي شبقت فعوت ، فاستعوت الكلاب)!
فصاح معاوية : أسكت لا أم لك !
قال جارية : بل تسكت أنت يا معاوية ، لي أم ولدتني وللسيوف التي لقيناك بها ،
وقد أعطيناك سمعاً وطاعة على أن تحكم فينا بما أنزل الله ، فإن وفيت ، وفينا لك ،
وإن ترغب فإنا تركنا رجالاً شدادا ، وأدرعاً مدادا ، ما هم بتاركيك تتعسفهم أو تؤذيهم.
صاح فيه معاوية: لا أكثر الله من أمثالك.
قال جارية : يا هذا – ولم يقل أمير المؤمنين أيضاً – قل معروفاً ، وراعنا ، فإن شر الرعاء الحطمة.
ثم خرج جارية من المجلس غاضباً دون أن يستأذن الخليفة !
فالتفت الوزراء الثلاثة إلى معاوية ، فقال أحدهم :
إن قيصرنا لا يخاطبه أحد من رعاياه إلا وهو راكع ، ملصق جبهته عند قوائم عرشه ، ولو علا صوت أكبر خاصته ،
أو ألزم قرابته ، لكان عقابه التقطيع عضوا عضوا أو الحرق ،
فكيف بهذا الأعرابي الجلف بسلوكه الفظ ، وقد جاء يتهددك ، وكأن رأسه من رأسك؟
فابتسم معاوية ، ثم قال :
إقرأ أيضا: قلة الوفاء من أقرب الناس
أنا أسوس رجالاً ولا أسوس خرافا ، رجالا لا يخافون في الحق لومة لائم ، وكل قومي كهذا الأعرابي ،
ليس فيهم واحد يسجد لغير الله ، وليس فيهم واحد يسكت على ضيم ، وليس لي فضل على أحد إلا بالتقوى ،
ولقد آذيت الرجل بلساني ، فانتصف مني ، وكنت أنا البادئ ، والبادئ أظلم !
تخيل أن هذا الحوار دار بين مواطن عادي ورئيس أكبر وأقوى دولة آنذاك.