ابنة الجار الجزء الثالث
ابنة الجار الجزء الثالث
داخل مقبرة الملوك
أمّا محمّد نفسه فقد تغيّر كثيرا منذ عشرة أيام ، فلم يعد يخرج للصّيد ، أو يرافقها في الغابة ، وصار يغيب طويلا في المغارة التي يأوي فيها عنزاته ،
ويمضي الليل هناك ، وفي البداية لم تكن حنان تهتم لذلك ، وقالت لها حدّة أنّ ولدها يحبّ الوحدة ،
وله حيوان يطعمه ، ربما كان حمامة أو حجلة ، لكنّ البنت الآن بدأت تستغرب ،
وقالت في نفسها : لماذا لا يشتري خيمة يبيت فيها ، فهو لا ينقصه المال ، وماذا يفعل هناك كلّ هذا الوقت؟
فحتّى الجبن تصنعه أمّه ، ولا أعتقد أنّه زاهد ، فهو يحبّ الأكل واللباس الجيّد.
ولم تعد حنان متحمّسة للزّواج ، وقرّرت أن تماطل حدّة ، وتساءلت إن كانت ما أحسّته تجاه الصّياد ليس سوى مجرّد مشاعر زائفة ،
بقيت البنت عدة أيام تفكر ، وانتابها القلق ، وكان لا بدّ من رؤية شعبان ،
فلقد شعرت أنها تشتاق إليه ، وفي الحقيقة فهي لم تقدر أبدا عن نسيانه.
في الأسبوع المقبل ألحّت حنان على المرأة لتحملها إلى السوق ، وقالت لها أنها تريد شراء قفطان ، ومبخرة فضّية ،
فكلمت ولدها الذي وافق على مضض ، فلها صندوق مليئ بالثّياب والتّحف ، ولمّا وصلت بجوار حائط تظاهرت بالإعياء ،
فقالت لمحمّد وأمّه : إشتريا لي ما طلبته منكما ، أمّا أنا سأستريح قليلا!
وبمجرّد أن إبتعدا قامت تبحث عن شعبان ، فهي تعلم أنّه يجيئ إلى السّوق.
وبعد قليل رأته ، وهو يدور وبجانبه حماره ، فجرت إليه ، وقالت له : لا وقت عندي ، ما الذي تعلمه عن الصّياد؟
إندهش الفتى من وجود حنان ، لكنّه أجابها : أبوه دجّال ، ويدّعي أنّه يقرأ الطالع ، ويعرف الغيب ، لكنّه مات منذ مدّة ،
وكما : يقال إبن الفأر يطلع حفّار ، وواصل الإبن مهنة أبيه!
إقرأ أيضا: كنت خائنا
لكن أين أنت الآن؟ أجابته : في خيمة على قمّة الجبل وبقربها عين ماء ، وغار كبير ،
وأنا لا أعرف إن كنت سأواصل البقاء أم لا ، وباستثناء تلك المرأة الطيبة ليس هناك ما يعجب.
إسمع ، سأنصرف الآن ، فمحمّد عصبيّ المزاج.
وما أن رجعت حتى رأت حدّة وابنها قادمين ، ومعهما قفة مليئة بالخيرات ،
ففتحت لها المرأة قرطاس فيه حلوى باللوز والسّمسم ، وقالت لها كلي ، لتستردي قواك ، ولقد إشترينا لك ما طلبته وزيادة.
أكلت حنان من تلك الحلوى وأعجبتها ، ثم قالت : إعدادها ليس صعبا ، وإذا أتيتموني بكلّ ما يلزم سأصنعها ، وأبيع منها ، ويكون لي حصّة من المال!
ظهر الإنزعاج الشديد على وجه محمّد ، وقال : أنا سأبيعها لك ، لست مجبرة على الجلوس في الأسواق.
أجابته حنان : بالله عليك هل تعتقد أنّني سجينتك؟
لمّا كنت في دارنا كنت أخرج مع إخوتي ، ونرى النّاس ، ونحضر للأعراس ، لا يبدو أنّنا سنتفاهم ،
وكعادتها لطّفت حدّة الجوّ ، لكن حنان كانت متوتّرة ، بعد كلّ ما سمعته.
فسحبها محمّد من يدها بقوّة ، وأركبها الحمار ، وقال لها بغلظة تذكّري أنّه لولا وجودي تلك اللية لأصبحت طعاما للذّئاب.
صمتت حنان وشرعت في البكاء ، وكان هناك رجل واقف يتفرّج على ما يحدث ،
ولمّا إنصرفوا تبعهم من بعيد حتى رآهم يصعدون الجبل ، ثم قال : وأخيرا عرفنا من الفتى الذي شاهدك الحرّاث معه ،
والمكان الذي تختفيان فيه!
كان ذلك الرجل أحد جيران إخوة حنان ، وجرى ليعلمهم بالخبر ليخرجوا ويقتلانهم معا.
إقرأ أيضا: أحيانا يبتلينا الله بحرماننا من أعز ما نملكه
لمّا وصلت حنان إلى الخيمة بقيت صامتة ، وحاول محمّد أن يعتذر عن غلظته معها ، وقال إنّه يحبها ، ويغار عليها ،
فهي جميلة ، ولا يطيق رؤية نظرات الإعجاب في عيون الباعة والمشترين ، ثم تركها وانصرف للغار.
فانتظرت البنت قليلا ، وسارت وراءه ، فرأته من بعيد يلتفت خلفه ثم يدخل بعد أن أشعل عودا من الحطب ،
ودون تردّد دخلت وراءه ، ومشت في رواق ضيق ، وفي نهايته رأت قبورا منبوشة ، وعظاما متناثرة لملوك ،
وذلك الصّياد منحن عليها ينتزع من أصابعها خواتم الذهب ، ومن رقابها القلائد الثمينة ،
فأطلقت حنان صرخة مدوّية ، وأغمي عليها.
السرّ الغريب ..
لمّا فتحت حنان عينيها ، وجدت نفسها موثقة اليدين والقدمين ، والفتى جالس بجوارها ، ثم قال لها :
لقد أفسدت كلّ شيء بسبب فضولك ، والآن تبقين حبيسة هنا حتى تموتين جوعا وعطشا ،
فهذه المقبرة مليئة بالكنوز ولقد إكتشفها أبي قبل مقتله ، وسأقول لك سرّا عجيبا ، لقد مات أبي بسببك ،
ولذلك حكاية طويلة هل تحبّين أن أقصها عليك؟
كان هذا أغرب شيء سمعته حنان ، ورغم حالتها الصعبة أومأت له برأسها ،
فقال : كان أبي منجّما بارعا وساحرا ، ويوم ولادتك أرسل السّلطان إلى جميع العرّافين ليقرأوا لها طالعها ،
ولمّا جاء دور أبي أخبره بأنّها لمّا تبلغ الخامسة عشرة من عمرها سيقتلها أحد من القصر ،
ولذلك السّبب أرسلها إلى أحد الفلاّحين في الجبل ، فعاشت مع أولاده السّبعة ، وهم يعتقدون أنها أختهم ،
وكان لها شامة كبيرة على كتفها ، وقبل أن يموت أبي بيوم واحد أخبرني بالقصّة ،
وطلب مني الهروب لهذه المغارة مع أمّي ففيها من الكنوز ما يكفينا لنعيش بأحسن حال ،
ولقد كان يعرف أن السّلطان سيتخلّص منه لا محالة لكي لا يفشي السرّ وجئنا لهنا ، لكنّهم قتلوا أبي!
إقرأ أيضا: قصة يروي أحداثها الدكتور مصطفى محمود
ولقد رأيت الشّامة على كتفك لما كنت مغمى عليك ، وعرفتك ، وكان في نيّتي أن أتزوّج منك ، وأصير أميرا ، وأنتقم من قتلة أبي ،
لكن لم أعد بحاجة إليك الآن بعدما عرفت الحقيقة ، واليوم بلغت الخمسة عشرة سنة ، وستتحقّق النّبوءة ،
وتموتين على يد واحد من القصر ، فقد كنت من الصّبيان الذين درّبتهم القهرمانة على العمل لدى أبيك السلطان!
إستمعت له حنان ، وقد إستبدّ بها الذّعر ، ثم قالت : هل تضحّي بي لأجل عظام نخرة فيها بعض الذهب؟ وماذا عن حبّك لي؟
أجابها : لا أحد يساوي شيئا أمام المال ، والآن سأحمّل جزءا من الكنز ، وأرحل من هنا ،
ولما أعود لأخذ الباقي تكونين قد متّ جوعا.
صاحت : أرجوك لا تفعل! لكنه قال : ستنالين جزاءك ، لوسمعت كلامي لما حصل لك ذلك!
والآن الوداع.
بقيت حنان تصرخ وتبكي لكن قلب محمد أصبح أقسى من الحجر ، ثم حمّل الذهب على الحمار ، وأطلق عنزاته في الجبل ،
ولم يأخذ سوى القطة ، وحمامة صغيرة ، ولما سألته أمه عن حنان أخبرها أنها هربت ، وسيبحث عنها فيما بعد ،
أما الآن فعليهما الإنصراف.
أمّا شعبان فأمضى سبعة أيام دون أن تغيب عن عينيه صورة حنان ، وأحس بالألم يعتصر قلبه ،
فقال من حسن الحظ أنها أعلمتني بمكانها ، وسأذهب لأرى إن كانت بخير.
سار في مسارب وعرة حتى رأى الخيمة من بعيد ولما إقترب رأى أنّها فارغة ، وأنّ من بداخلها قد رحل وهم بالذّهاب ،
لكنّه سمع صوت عنزة ، فاتّبع مصدر الصّوت حتى رآى واحدة تطل من المغارة ، ولمّا رأته ،
دخلت تجري ، فسار ورائها ، رفجأة سمع في الظلام أنينا قويّا ، فاستعاذ بالله من الشّيطان ، وقال من هنا ، جنّ أم إنس؟
إقرأ أيضا: ابنة الجار الجزء الرابع
وبعد قليل سمع حنان تقول بصوت ضعيف : هل هذا أنت يا شعبان؟
فجرى الولد ، وأشعل عودا ، ورأى الفتاة مكوّمة على نفسها وسط العظام وقد شحب لونها ، وعلتها القذارة ،
ففكّ وثاقها ، وحملها للعين ، فغسلت وجهها ، وشربت ، ثمّ أخرج لها من جرابه خبزا وتمرا ، فأكلت ، وهي ترتعد من الجوع ،
بعد ذلك خلع عباءته ولفّها بها ، وقالت له : هناك كثير من الذّهب في المغارة.
إلتفت شعبان حوله ، فوجد صندوقا قديما من الخشب ملئه حتّى آخره ، ثمّ سارا معا حتى وصل إلى داره فاستحمّت ، وغيّرت ثيابها ،
ثمّ نامت مدّة يومين كاملين ، والحمّى تلتهم جسدها النّحيل.
في اليوم الثّالث فتحت عينها ، فوجدت شعبان جالسا عند رأسها ، يحملق فيها ، لمّا سمع أبوه العجوز ،
أتاها بصحفة فيها لبن ، وقال له : ستفرح أمّك بشفائها ، فهي تسأل عليها كلّ يوم ، والآن اذهب إلى عملك ، فأنت لم تربح ملّيما هذه الأيّام!
أجاب شعبان من اليوم : سأتوقّف عن هذا العمل المتعب ، وأفتح دكّانا في السّوق.
عقد العجوز حاجبيه من الدّهشة ، وقال له : ومن أين المال يا إبني؟
ضحك الولد ، وقال : بفضل تلك الفتاة رزقني الله هذا الصّندوق ، ثمّ فتحه ، فانبعث منه بريق أصفر.
يتبع ..