اسمي خالد أبلغ من العمر سبع وعشرين سنة ، أعمل مهندسا معماريا ، أسكن مع والدي في منزل أمي التي توفيت قبل أربعة أشهر من الأن ،
والتي كانت وصيتها هي البحث عن أبي والعيش سويا في منزلها هذا.
عثرت عليه بعد عناء طويل ، وجدته مشردا في أحد الشوارع في حالة يرثى لها.
في بادئ الأمر رفض القدوم معي ، ولكن بعد عدة محاولات استطعت إقناعه ،
وهو الأن يعالج من الإدمان على الخمر تحت إشراف أحد الاطباء المختصين.
يظل طول النهار جالسا عند الشرفة وهو غارق في تفكيره العميق ، قليلا ما يحدثني.
ذات ليلة تأخرت في الخارج ، دخلت المنزل واتجهت نحو غرفته لأطمئن عليه ،
وأنا في فعل هذا سمعت صوت يجهش بالبكاء كأنه طفل صغير يبكي بحرقة ،
الصوت قادم من الشرفة ، إنه أبي أصابتني صاعقة من المشاعر جمدت تفكيري.
تقدمت نحوه ، توقف البكاء يبدو أنه يمسح دموعه ، أبي هل أنت بخير ، نعم يا بني أنا بخير لا تقلق.
جلست قبالته وأمسكته من يديه ، وأنا أنظر إلى وجهه الذي بدأ يتآكل ،
وعيناه المشوهتان من آثار الذوبان ، قد تركت بقعا في كل مكان.
ثم قلت له : أبي لماذا تجلد نفسك هكذا طول الوقت ، إن الرسالة التي أرادت أمي أن تصلك من خلال وصيتها ،
هي أنها سامحتك ولتعلم أنها لازالت تحبك.
كفى لقد فقدتك طول هذه المدة ولازلت أفتقدك حتى الأن رغم أنك معي.
نظر إلي نظرة حزينة ثم قال لي بنبرة الحصرة والندم : أعلم يا بني ، سامحني ، لكن طيبتها الزائدة هي من تجعلني أبكي.
أتذكر كيف كانت تخرج الحشرات والصراصير من البيت دون أذيتها ،
وكيف كانت تقدر كل كائن حي ، حتى النباتات كانت تقوم بإلقاء التحية عليها كل صباح والطيور على أشكالها في حبها تقع.
إقرأ أيضا: تقول كانت أقرب صديقاتي
لم تكن من البشر ، رغم أني حينها كنت أراها ساذجة وضعيفة ، إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم ،
عندما جئت من العمل ولم أجد وجبة الغذاء جاهزة في وقتها المعتاد ،
صرخت باسمها واتجهت إلى غرفة النوم فوجدتها تحايل صرصورا أسود لإخراجه من تحت السرير دون أذيته.
فقلت لها بصوت هادئ والنار بداخلي ، ماذا تفعلين ، أجننت.
أدارت وجهها المبتسم نحوي وقالت بلطف ، عشرة دقائق ويكون الغذاء جاهزا عزيزي.
إن الاشخاص الذي لا يملكون الرحمة في قلوبهم يستفزهم الراحمون.
لذلك اتجهت نحوها وقمت بدعس ذلك الصرصور ، فقامت وجلست على السرير وهي في ذهول ،
ثم وضعت كفيها على وجهها ، وأنا لازلت أهجم عليها بالكلمات القاسية إلى أن قلت لها ،
غلطت عمري أني تزوجت ضعيفة وساذجة مثلك.
عندما أنهيت هذه الجملة نظرت إلي نظرة عزم لم أرى أقوى منها ثم قالت :
طلقني فلا يمكنني العيش مع شخص يكره الحياة إلى هذه الدرجة.
لم أتوقع حينها أن تكون قوية لدرجة أنها طلبت الطلاق ،
كان علي مصالحتها وتقديم الإعتذار لها ، لأنها كانت ستقبل وتصفح عني ، لكن كبريائي حطمني ومنعني من إصلاح ما أفسدته.
طلقتها ، تزوجت أنا وأعطاها القضاء حق رعايتك ، وقلت لها مستهزئا ،
مسكين إبني خالد سيكبر ضعيفا وغير قادر على مواجهة الحياة.
وقع العكس فشل زواجي وضاعت حياتي ، بينما استطعت هي لوحدها إعطاء المجتمع ذكرا بمائة رجل.
يبدو أن وجهي كان حينها غارق في الدموع ، تنهدت ثم انفجرت ، نعم أنا كذلك أفتقدها كل صباح كل ليلة كل ساعة وكل ثانية.
لم أرى أرحم وأرق منها ، أصيبت بسرطان الأمعاء ، ويقول الأطباء أن الألم الذي يسببه هذا المرض فضيع ،
لا يمكن تحمله ، واستغربوا من حالة أمي لأنها لم تحس بذرة ألم قط.
وكنت عندما أزورها تستقبلني بوجهها النوراني وكأنها قطعة من الجنة ، ضمني أبي عنده بقوة وقد امتزج كلامه بالبكاء ،
نعم لقد كانت قطعة من الجنة أرسلها الله لنا لتعلمنا سر الحياة الذي يكمن في الرحمة.
ولولا هؤلاء الراحمون مثل أمك لكان العالم انتهى مند زمن ، فهم من يحققون التوازن على هذه الأرض.