الأميرة وأوراق الشجر
يحكى أنه على ضفاف النيل الأزرق عاشت قبيلة إسمها الكوما ، وكان لها زعيم قوي متزوج من إمرأة جميلة ،
لكن رغم مرور الأيام لم يرزقها بأطفال وكان ذلك يكدر خاطرها.
وذات يوم قدمت قربانا لله ، وتضرعت له لكي يرزقها غلاما يصير قرّة عين أبيه.
وفي الليل حلمت أنّ شجرة خرجت من بطنها ، ثم نبت منها غصنان أحدهما طويل خشن ، والآخر رقيق ،
ولمّا ذهبت إلى العرّافين أخبروها أنّها سترزق بولدين توأمين ، أمّا باقي الحلم فلم يقدروا على تفسيره ،
وتوجّست المرأة خيفة من ذلك ، واعتبرته نذير شؤم ، وبعد أيام تحققّت النّبوءة ، وظهر الحمل على الأميرة ،
وفرح سكان تلك القرية بذلك الخبر ، وأقاموا الإحتفالات ، وقرعوا الطبول والدفوف.
ولمّا مضت التّسعة أشهر ولدت طفلين كالقمر ، فأسمت أحدهما كنان ، والآخر عنان.
ومرّت الأيام وكبر الغلامان ، ورغم تشابههما في المنظر إلا أنهما مختلفين في الطبائع ،
فقد كان عنان صيّادا يحبّ مطاردة الغزلان في البراري ، فصحّ جسمه وقويت نفسه ،
أمّا كنان فكان يحب الجلوس مع أمه ، ويكره الحياة الخشنة ، فشبّ رقيق الطبع يسمع الشعر ، وقصص الحكماء ،
وكان أهل القرية يحبّون عنان لقوته فاغتر بنفسر ، وبدأ يسخر من أخيه على ضعفه ، ويشبّهه بالنساء ،
وغضب منه أبوه وقال له أنه يحبهما الإثنان ، ولكل منهما خصاله ، لكن ذلك لم يغيّر شيئا من سلوك عنان الذي تمادى في تهوره ،
وقال : فقط الأقوياء يعيشون في هذه الغابه ، والحيوان الضعيف يظل دائما فريسة للسباع المتوحشة.
وصار المسكين كنان يحس بنظرات الإحتقار ، التي بدأت تتزايد في أعين النّاس بعد كل مكسب يحققه أخوه ،
فقد قتل مرة نمرا إقترب من أكواخ القبيلة ، ومرّة أخرى طلع إلى قمّة جبل عالي وأحضر بيضة نسر ،
ولما يتصارع مع الفتيان الذين في سنه كان يغلبهم جميعا.
وبدأت معاملة الأب لولديه تتغيّر ، فلقد صار عنان يحضى بتبجيل أبيه الملك ، فزوّجه أجمل البنات ،
وصار يأكل أحسن الطّعام ، بينما كانت الأم تدافع على كنان ، وترى أنّ الغلظة ليست معيارا للإختيار بين ولديها ،
إقرأ أيضا: ما رأيك هل أبدو جميلة؟!
وأن ولي العهد يجب أن يكون رقيقا يحسّ بالجمال ، ويقدر أن ينظر في الأمور بالحكمة ، وليس بالقوة.
وفي أحد الأيّام رأى كنان أنه لم يعد له مقام في القبيلة ، وعليه أن يرحل بعيدا ، ولا يرجع إلى هنا أبدا ،
فهؤلاء الناس أغبياء ، ولا فرق بينهم وبين الحيوان.
وفي الليل أخذ سلة الموز ، وقشرة بيضة نعامة ملأها بالماء ثم خرج للغابة ، ومشى على ضوء القمر لا يعرف أن تقوده قدماه ،
وتمنى لو أن أحد السباع يخرج له فيفترسه ، ويرتاح من حياته البائسة ، فحتى أبوه تنكّر له ، وفضّل أخاه عليه ،
لكنه كان آسفا على أمّه فقد كانت تحبه كثيرا ، فتمالك دموعه ، فليس له ما يقدّمه للقبيلة ولا لأبيه.
سار الولد طويلا حتى تورّمت قدماه ، وفي الأخير وصل لأرض مليئة بالأشجار وبينها أكواخ فارغة لم يكن هناك أحد لا ناس أو حيوان ،
فتعجب ، وتساءل أين ذهب القوم؟ فأوانيهم لا تزال على الحطب! لكن النار إنطفأت منذ مدّة طويلة ،
فتعوّذ بالله ، واتّجه إلى بحيرة صغيرة لكي يشرب ، ويملأ قشرة بيض النعام لكنه وجد الكثير من أوراق الشّجر تطفو على الماء ،
وهناك منها الخضراء ، والذابلة ، والكبيرة ، والصغيرة.
ولمّا لمس إحداها وكانت صفراء سمع صوتا عجوز يقول : أرجوك أخرجني من هنا ،
فجزع كنان ، والتفت حوله ، فلم ير شيئا ، ولما مدّ يده لورقة أخرى يانعة ، سمع صوت فتاة تطلب منه نفس الشيء ،
فتشجع وأخرج الورقة ، ثم رماها على الأرض فصارت بنتا جميلة عارية الجسم ، ثم إختفت وراء شجرة ،
وقالت له إن تلك الأوراق هم أهل القرية والصفراء الشيوخ ، أما الخضراء الشباب والأطفال.
فبدأ في إخراج الأوراق الواحدة تلو الآخر حتى بقيت ورقة في وسط البحيرة وقال له الناس إنها الأميرة يوبا ،
فسبح في الماء ، ثم أمسكها ، وما كاد يبلغ الشاطئ حتى تحوّلت لفتاة قمحية اللون لها عينين عسليتين ،
وسارع القوم ورموا ثوبا عليها ، ثمّ قالت له : إسمع ، بما أنّك رأيت جسمي ، لا بد أن تتزوّجني ،
هذه العادة في بلدنا ، وكل واحد عليه أن يحترمها حتى الغرباء.
إقرأ أيضا: الطفل والإصبع الذهبي الجزء الأول
ثم نظرت في عينيه ، وقالت له : ستصبح حامي القبيلة ، وتدفع عنا الأعداء من البشر وسباع البريّة ،
فتعجّب كنان من كلامها ، وأخبرها أنّه ضعيف الجسم ، ولا يعرف القتال ، وهو أبعد من أن يكون الشّخص الذي يصلح لهذه المهمّة.
أجابته يوبا : لا تقلق ، ثم جمعت أعشابا من الغابة غريبة الشكل وطبختها في الماء ، ثم قدّمتها له في صحفة ،
فلمّا تذوّقها وجدها مرّة الطعم ، فأغمض عينيه ، وابتلعها ،
ضحكت الأميرة ، وقالت :حسنا ، والآن إذهب للنوم فغدا عرسك ، أمّا أنا فسأصلح من شأني وزينتي.
بدأ كنان بثقل جفونه فجلس على حصيرة وراح في نوم عميق ، غدا صباحا لما إستيقظ وجد الناس واقفة تنظر إليه بدهشة ،
ثم جاءت عجوز وقالت له : هيا إنهض لتنحر ذلك الثور ، وتضع القدر على النار!
ولمّا إلتفت حوله شاهد ثورا ضخما مربوطا في شجرة ، وقربه قدر من النحاس تكفي لإطعام قبيلة بأكملها ،
فقال لها : هذا يلزمه عشرة رجال يا إمرأة!
ردّت عليه : ويحك ، أتريد أن تخجل منك عروسك؟
أحسّ كنان بالحرج ، وتذكّر كيف كان قومه يسخرون منه بسبب ضعفه ، فقال في نفسه والله لن يتكرر هذا ،
ثم قام إلى الثور ، وبضربة واحدة أوقعه على الأرض حاحظ العينين ، وعلا الصياح والهتافات بين القوم.
نظر كنان إلى نفسه بدهشة ، وتساءل : كيف أمكنني فعل هذا الأمر العظيم ، ثم أمسك السكين ،
وفي لمح البصر حزّ رقبة الثّور وسلخه ، ثمّ قام إلى القدر الثقيلة ، فحملها بين ذراعيه ، ووضعها على النار.
وابتهج كنان بقوته ، فلقد أصبح جسمه جميلا ، وعضلاته ظاهرة من وراء ثوبه ،
ثم جاءته جواري الأميرة يوبا وهن يغنّين ، وأخذنه إلى البحيرة ، فاستحمّ ودهنن جسده بمرهم عطر من زهور الغابة ،
ثم ألبسنه ثوبا أبيض من الكتان ، ووضعن في قدميه نعلا من جلد التماسيح وفي عنقه قلادة من أصداف البحر ،
ولمّا وصل إلى القرية وجد مجلسا منصوبا ، وعليه جلود النمور ووسائد من ريش النعام ،
وكانت الأميرة قاعدة في أحلى زينتها ، وبين يديها الحرس والأعوان يحملون الحراب ، والخناجر في أوساطهم ،
إقرأ أيضا: لن أنسى قط ما حدث ما دمت حيًا
فتعجّب من شدّة جمالها ، ولم يصدّق نفسه ، فبعد أن كان تائها في الغابة منبوذا من أبيه وقومه ، ها هو يصير أميرا قوي البدن ،
وله أجمل النساء.
بعد قليل حضر الطعام فأكل حتى شبع ، وكان الجميع يرقصون ويغنون ، واستمرت الولائم والبهجة سبعة أيام ،
وسمعت القبائل المجاورة بقوّة كنان فلم يعد أحد يجرأ على الإقتراب من قبيلته ،
أو ينافسها على المرعى والماء ، حتى الحيوانات المفترسة هربت.
مرت سنة وكنان ينعم بأرغد العيش وإحترام الناس ، وكانت الأميرة تعشقه بجنون ،
وذات يوم قالت له : إياك أن تخبر أحدا بسرّ العشبة ، وإلا زال سحرها ، وأنا أنصحك بعدم الإبتعاد عن القرية ،
فلك كل شيء ، وإلا فستندم!
قال كنان : ولماذا تقولين ذلك ، فأنا لا أقدر عن الإبتعاد عنك!
لكن مرّ الوقت ، وبدأ الفتى يحنّ لرؤية أمّه ، وبعد تردّد طويل قرّر أن يذهب إليها فحمل لها الهدايا ،
وسار ثلاثة أيام حتى وصل إلى قبيلته ، وفي الطريق إلى كوخ أبيه قابل أخاه عنان الذي شتمه وسخر منه ،
فوضع كنان كيسه على الأرض ، وقال له : سأجعلك تقبّل الأرض أمام قدماي أيها الملعون ،
وأبي لم يحسن تأديبك.
فلما سمع عنان هذا الكلام ، أرغى وأزبد ، وقال له : سأطم وجهك لكي لا تقدر أن ترفع رأسك أمامي مرّة أخرى.
تسامع الناس بما يجري ، واجتمعوا حول الأخوين لتهدئتهما ، لكنهما لم يستمعا لأحد ،
وبدآ في العراك ، وتعجّب الجميع لقوّة كنان الذي كان يقاتل مثل الأسود ، ولم يطل الوقت حتى ألقى أخاه على الأرض ،
ووضع قدمه على رقبته ، وقال له : من منا الأقوى الآن؟
وصاح في الناس : من يريد أن يتصارع معي ؟
فخاف الجميع منه ، ثم ذهب كنان لأمّه ، وسلم عليها وعلى أبيه الذي سمع بما حصل ، وعمل له وليمة عظيمة ووعده أن يجعله ولي العهد ،
أمّا عنان فتساءل عن سرّ قوّة أخيه وغناه ، وأصر أن يحتال عليه ويعرف كل شيء
إقرأ أيضا: حكاية أحلام الشجرات الثلاثة
فذهب إليه ، واعتذر على غلظته معه ، ثم صنع له طعاما وشرابا مسكرا من جوز الهند ، وصار يسقيه القدح تلو الآخر ،
ولما دار الشراب في رأسه طلب منه أن يروي له قصّته فبدأ كنان يحكي على بحيرة الأوراق ، والأميرة يوبا والعشبة السّحرية.
في الصباح لما أفاق من النوم ، شعر بأن رأسه تألمه ، وحاول أن يتذكّر ما جرى ،
ولمّا إلتفت حوله لم يجد أخاه ، فنادى عليه لكن لا من مجيب ، وبحث عنه في كل مكان وفي النهاية وجد رجلا أخبره أنّ عنان غادر القرية في الصّباح الباكر ،
وقد حمل معه زادا ، فضرب جبينه بيده ، وقال :
ويحي لقد علم أخي سرّ العشبة ، يجب أن ألحق به مهما كان الأمر!
ثم جرى بسرعة بين الغابات ، ولما وصل لم يجد لا الأميرة ولا القرية ، فقد إختفى كل شيء كأنّ الأرض إنشقت وابتلعتها ،
فأطلق صرخة عظيمة ، وبدأ يجري ، وينادي على يوبا ويطلب منها أن تسامحه ، فهو يحبها ،
لكن لم يسمع إلا أصوات القرود على الأشجار ، والطيور التي تصيح في السماء ،
فتمدّد على الأرض ، ووجهه في التراب ، وبدأ يبكي ويشهق.
وفجأة رأى شبحا يقترب منه فإذا به أخوه ، فأراد أن يثب على رقبته ، لكن عنان دفعه فسقط على الأرض ،
في هذا الوقت عرف أنه فقد قوّته ، ورجع كما كان ضعيفا ، وقد خسر كل شيء بسبب حمقه.
اشتد به الندم ، وتحسّر على تلك الأيام التي عاشها كالحلم ، الآن سيعود إلى حياة الذل كما كان ،
لكنه لما رجع إلى قبيلته صنع لنفسه قوسا وجعبة سهام وقال في نفسه : هيهات أن يسخر منّي الناس مرّة أخرى ،
وصار يخرج إلى الصّيد ويجري في البراري ، ولمّا يتعب يتذكّر يوبا بعينيها الواسعتين ، فيقوم ،
وقد إشتد عزمه أن يكون أحسن من أخيه.
إقرأ أيضا: القرية المخفية الجزء الأول
وجد نفسه وحيدا صنع لها تاجا من الزّهور ، وبمرور الأيام التّيجان والقلائد لأميرة يوبا في الغابة ،
وعلم كل الناس بقصّته وحزنوا من أجله ، وصاروا يحبّونه لإخلاصه وعزيمته.
ولما أراد أبوه جعله وريثا من بعده على الحكم ، رفض وقال له : لا أريد يا أبي سأبحث عن يوبا.
وذات يوم صنع كنان إكليلا كالعادة ، وعلقه على غصن ، ثم جلس يبكي ،
وفجأة أحسّ بيد على كتفه فالتفت وراءه ، رأى يوبا واقفة ، وقد وضعت إكليل الزهور على رأسها ،
فلم يصدّق عينيه ، وسألها هل هذه أنت يا يوبا ؟ أجابت: نعم ،
ولقد أعلمتني العصافير بحزنك الشّديد ، وأنّك ما عصيت أمري إلا لبرّ ك بوالديك ، وأن سرّ العشبة أخذه أخوك بالحيلة.
ولتعلم أنّه بمجرّد ما قطف تلك العشبة ، تحوّلت في يده إلى حيّة خضراء لها ثلاثة رؤوس ،
فلما هرب منها أخرجت من أفواهها ضبابا شفافا أخفت قريتنا ، ولا يمكن للغرباء دخولها أو الخروج منها ،
هذا يعني أنه إذا أردت أن تبقى معي فلن تعود إلى ديارك ، هل فهمت يا كنان؟
فكّر الفتى ، ثم قال : لقد رأيت أبي وأمي ، واسترجعت كرامتي في القرية ، وسيذكرني الناس بالخير ر
أمّا أخي عنان ، فهو قويّ ، وسيكون حاكما جيّدا لهم ، ثم قالت له : لن تحتاج الآن لسحر لكي تحمينا ،
فمن أجلي تعلمت الصيد والقتال ، ولقد لقد أعجبني حبك لي فقررت أن أغفر لك حمقك.
ثم أمسكت بيده وسارا في دروب الغابة بعد ذلك لم يسمع أحد شيئا عن كنان.
ويقال إلى يومنا هذا أنّ أحد حوريات الغابة إختطفته ، أمّا عنان فندم أشد النّدم ، ولام نفسه على ما فعله بأخيه ،
وصار كلّ يوم يخرج من القرية ، وينظر إلى الطرقات لعله يرجع.