التاجر والكنز والببغاء
يحكى أن تاجرا ثريا عاش في زمن بعيد ، وكان كريما طيب القلب ،لا يترك شخصا قصده دون إعطائه شيئا ، ولا أحدا ينام جائعا أو دون ملابس دافئة.
وفي المساء أصبح الفقراء وعابروا السبيل والأيتام يتزاحمون أمام باب داره بانتظار عودته.
وكانت إمرأة التاجر منزعجة من هؤلاء القوم الذين يأتون ليس فقط من قريتهم بل أيضا من القرى المجاورة ،
وطلبت من زوجها أن يكفّ عن تبديد ثروته ، ويكتفي بمن في زقاقهم من المحتاجين.
لكنه قال : إني أخاف أن يسألني ربّي لماذا لم ترزق عبادي ممّا أعطيتك؟ وحينئذ لا أعرف ما أجيبه.
أجابته : إن واصلت على هذا النحو فلن يطول الأمر كثيرا لكي نصبح مثلهم.
رفع يديه إلى السماء ، وقال: يا ربّ ساعدني على فعل الخير ، واجعلني من عبادك الصالحين.
وكان للتاجر ببّغاء يطعمه بيده ويحكي له عن ما وقع له كلّ يوم.
وفي أحد الأيام قال له : لقد كانت إمرأتي على حق فنحن نعطي أكثر مما نربح ، ولكن إن بقي لي فلس واحد سأعطيه ،
وجاء اليوم الذي لم يبق له شيئا فأغلق المتجر ، واشتغل في رعي الأغنام ولم يندم في يوم من الأيام على ما فعله من خير.
وكانت إمرأته توبخه على حمقه وما آل إليه وضعه ، وقالت له : لقد أصبح حالنا مثل الفقراء الذين كنت تعطف عليهم.
أجابها : ما زال عندنا صحة ، وهذا أكثر أهمّية من المال.
سخرت منه ، وقالت : ما يهمّني هو أن تتدبّر أمرك لإحضار مأكلي وملبسي ، وإلا سأترك البيت ، فأنا لا أطيق الفقر.
لم يغضب منها ، فقد كان رجلا طيبا ، وعذرها على قسوتها معه ، فلقد تعوّدت على حياة العزّ والبذخ ،
أمّا هو فقد عرف الفقر عندما كان صغيرا ، لذلك كان يعطف على الفقراء ، ولم يغيّر الثّراء في طبعه.
إقرأ أيضا: هل يمكن للفقير أن يعيش حياة راغدة مثلما يعيشها الغني؟
في أحد الأيام بينما كان يرعى قطيعه شبّ حريق في الغابة ، وشاهد من بعيد أفعى صغيرة تحاول النّجاة من النّار ،
فأخذته الشّفقة عليها ، ودخل وسط النيران وأنقذها ، لكن فوجئ بها تتكلم ، وتشكره على صنيعه.
وقالت : له أنا ابنة ملك الجان ، ولا بدّ من مكافئتك.
ذهب معها إلى مملكتها وقابل والدها ، فشكره ، وقال : لا نقدر أن نكافئك بالمال فنحن لا نملك منه شيئا ،
لكننا سنعلمك لغة الحيوان عل شرط أن لا تخبر أحدا ، وإلا جزائك الموت.
أومئ التاجر بالموافقة.
إقترب ملك الجان منه وصفّر في أذنيه ، وقال له : الأن بإمكانك الإستماع إلى الحيوانات وهي تتكلم ،
وستعرف أسرارا لا تخطر على بالك ، لا تظهر أنك تفهم لأنهم سيحذرون منك ، وقد يؤذونك ، إجعل سرّك في قلبك.
إستيقظ الرّجل من نومه ، وجد القطيع يرعى أمامه ، ولا أثر لمملكة الجنّ.
قال في نفسه : لا شكّ أنّي كنت أحلم ، لكنه حلم ممتع جدا.
في طريق العودة مرّ أمام مستنقع كبير ، ووجد مجموعة من الضّفادع تقفز بمرح ، وقالت إحداهنّ :
لولا هذا الصّندوق في القاع لما أمكننا القفز ، إنّه قديم له مئات السنين هنا ،
ومنذ زمن بعيد كان هذا المسنتقع جزءا من نهر كبير تبحر عليه السّفن ، لكن جفّ كلّ شيء ولم يبق سوى ما نراه الآن.
لقد روت جدّتي كل ذلك.
أدرك التّاجر أنّ حكاية الأفعى بنت ملكة الجان حقيقية ، ومن الواضح أنّهم جعلوا له سحرا لينام ،
ونقلوه إلى الغابة لكي لا يعرف مكانهم. تسائل ما هي قصّة الصندوق؟
ما سمعته يبدو عجيبا ، على كلّ حال المستنقع ليس عميقا ، سأذهب لأرى ما فيه.
إقرأ أيضا: تقول حملت معطف والدي فلمحت ثقبا كبيرا في جيبه
كان الصّندوق ثقيلا ، ولم يسحبه إلا بشقّ الأنفس ، نظر إلى القفل الذي علاه الصدأ ، وقال لم يعد يحتاج لمفتاح ،
أخذ حجرا كبيرا وضربه به فانفتح ، وتناثرت القطع الذّهبية ، أخذ جرابا وملأه بالذهب ، وحفر حفرة أخفى فيها الصّندوق ،
ولمّا رجع إلى بيته قال لإمرأته لقد وجدت كنزا ، وأحضرت معي ما يكفي.
قالت له أين وجدته : أجاب : في المستنقع ، سألته : كيف؟
قال : دلّني عليه الله ، قالت له: أتمنّى أنّك إستوعبت الدّرس ، وستحافظ على مالك هذه المرّة.
أجابها : لأنّي كنت كريما مع المحتاجين ، فالله رزقني أضعاف ما كنت أملك ، ألا تعتقدين أنّ هناك ربّا عادلا في السّماء؟
سكتت لحظة وقالت : دون شكّ ، لكني أعتقد أنّك كنت محظوظا لا غير ، الكثيرون وجدوا كنوزا ،
ولم يكن يتصدق منهم أحد!
هذه المرّة سأطرد كلّ من أجده أمام بيتي ، فالحظ لا يتكرّر مرّتين.
وسأحاسبك على ما تنفقه من مال ، والويل لك إن زاد عن الحدّ.
أحسّ التّاجر بالألم لجحود زوجته ، وتهديدها له.
ذهب للببّغاء ليشكو له حاله كما تعوّد أن يفعل ، لكن الآن كانا يفهمان بعضهما ، وعندما أتمّ كلامه ،
قال له : لا تقلق يا رجل ، فالله يمتحن صبرك ، وعوضا أن يأتي الفقراء إليك إبن لهم ملجأ يأكلون فيه ، ويحسون بالدّفئ في الشّتاء ،
واجعل عليه وقفا.
إستغرب التّاجر من حكمة الببّغاء ، وقال في نفسه : لله درّك يا ملك الجان فما تعلّمته من لغة الحيوان أفضل ألف مرة من الذّهب والفضّة.
نفّذ التّاجر رأي الببّغاء واشترى بصندوق الذّهب أرضا بنى في طرفها ملجأ ، وجعل عليها قيّما من أهل الصّلاح ،
ولم يعد الفقراء يأتون فقط لحاجتهم بل أصبح الكثيرون منهم يعملون في الزّراعة ، وتحسّنت أحوالهم ،
وبارك الله في تلك الأرض ، وفاق دخلها الخرج ، وبنى التّاجر فيها مسجدا ، ودعا الناس له بالخير والرّحمة.
إقرأ أيضا: الطفل والإصبع الذهبي الجزء الأول
في أحد الأيام ذهب التاجر مع إمرأته لزيارة أهلها على عربة يجرها بغلان ، في الطريق قال أحد البغال للآخر :
تمهّل ولا تسرع ، سأله الآخر لماذا هذا العناء؟
علينا أن نصل بسرعة لنرتاح ونأكل ، لقد إشترى التّاجر شعيرا رطبا ، وأنا أتلهّف لتذوّق شيء منه.
ردّ الآخر : الشّر أعمى بصيرتك ، ألم تعرف أنّ تلك المرأة تحمل جنينا ، وأنّ الطريق مليئ بالحفر والحجارة ،
لو أسرعنا لاهتزّت العربة وأجهضت المرأة ، وسيّدي إمرئ خير لم يقصر يوما في حقّنا.
كان التّاجر يستمع بانتباه ، وفرح عندما علم أنّه ينتظر مولودا.
قبّل إمرأته على جبينها ، وهمس لها : هنيئا لك بما تحملينه في بطنك ، سأقيم وليمة أدعو لها كلّ الناس عندما نرجع.
تعجّبت المرأة ، وسألته كيف عرفت؟ فأنا لم أخبر أحدا ، ولم أدرك ذلك إلا منذ أيّام.
أجاب الرجل : لقد أحسست بذلك فقط.
قالت المرأة في نفسها : هذا الرّجل يخفي سرا ، قبل أشهر وجد كنزا ، ولم يفسّر لي كيف ،
وفي بعض الأحيان يخبرني عن أشياء لا أصدّقها ، لكن يتّضح أنّها حقيقة ، سأراقبه لأعرف ما يخفيه عنّي.
وذات يوم جاء دكّان التاجر رجل ، وقال له : معي حمولة قافلة من الليمون والبرتقال ، وقد ولدت زوجتي غلاما ذكرا ،
وأنا في عجلة من أمري ، وأريد أن أرجع لأراه ، سأبيعك كل ذلك مقابل كيس من الذهب ، وهو ثمن بخس.
أخرج التاجر ما تبقى من الكنز ، ودفعه له.
كانت إمرأته تتلصّص عليه كل يوم وعندما رأت كل تلك الحمولة ، جاءت إليه وقالت له :
يا أحمق من سيشتري كل ذلك ؟ فالقرية صغيرة ، وستفسد ، ونرجع فقراء كما كنّا ، قال :
لا عليك الرزق بيد الله ، فغضبت منه ولم تعد تكلّمه.
حزن التّاجر ، وقال : قد يكون كلامها صحيحا ، لقد أردت فعل معروف في الرّجل ،
كان ينظر إلى النّافذة عندما حط عصفوران ، وقال أحدهما : لا بدّ أن نرحل غدا من هنا فسيتغيّر الطقس ،
ويحلّ برد وثلج ، ويسوء الحال هنا.
إقرأ أيضا: قصة جوري الجزء الأول
قال التاجر في نفسه : لن أبيع الآن ، بعد مدّة سترتفع الأسعار ، كلّ ما علي فعله هو الإنتظار.
كانت إمرأته تراه جالسا ، فتسبّه ، وتقول له : هيّا قم ، وبع بضاعتك لعلك تسترجع جزءا من خسارتك.
لم يعد يطيق ذرعا بها ، وقال : من الأفضل أن تستعدي للبرد القارس وتعدّين لنا غطاءا دافئا وتضعين حطبا بجانب المدفئة ،
وفي إنتظار ذلك دعيني وشأني.
قالت له : سأجعلك تندم على وقاحتك أيها الأحمق.
جاء الشتاء على غير عادته مبكّرا ، وكانت الأيّام باردة جدّا ، ومرض النّاس ، وكثر السّعال والحمّى ،
ووصف الأطباء لهم الليمون والبرتقال الذي غلا ثمنه جدّا ، وانقطع من الأسواق.
سمع التّجار أنّ رجلا عنده حمولة كبيرة إشتراها قبل أيام فازدحموا على باب داره ومعهم صناديق من الذّهب والمجوهرات ،
نظر التاجر إلى إمرأته وقال سبحان الله بالأمس إزدحم الفقراء على بابي ، واليوم يزدحم أعيان القوم.
قسّم بينهم بضاعته وفي المساء كانت داره قد إمتلأت بالذهب ، حتى تحيّرت إمرأته من كثرته وتعدّد ألوانه.
في أحد الأيام وصلها خبر الملجأ ، والأرض ، فجاءت زوجها ، وقالت : أنا متأكّدة أنّك من فعلت ذلك.
أجابها وما يعنيك من الأمر ، هل ينقصك شيء؟
قالت له : سمعت أن الأرض خصبة وهي تدرّ كثيرا من المال فوق حاجة الفقراء ، قل لي ماذا فعلت بما تربحه :
قال: بنيت مسجدا ، ودارا للأيتام ، وزاوية لتعليم الصبيان ، ودارا للمرضى ، وأجريت النّفقة على الأطباء.
قالت : وماذا سيفيدنا كل ذلك ، ألم تتّعض ممّا جرى لك بسبب الفقراء.
ردّ عليها : إتّق الله ، ألم يكفيك ما عندنا من ذهب وياقوت وعبيد ، وإماء ودكاكين لتنافسي الفقراء في لقمة عيش يأكلونها ،
ودواء يشربونه وعلم يتعلّمونه!
قالت : الله يعطيهم كما أعطاك.
إسمع أعرف أنّ ورائك سرا ، سترويه لي ، والويل لك إن لم تقل الحقيقة.
إقرأ أيضا: عنده من المال عائرة عين
سأغلق بيتي ، ولن تدخله ، وسأشيع في النّاس أنك عارف بالسّحر ، وهذا سرّ ثرائك.
فزع التّاجر لمّا سمع ذلك ، وقال في نفسه : سأخبرها بسرّي ، فوالله الموت أفضل ألف مرّة من تهمة تلاصقني في حياتي ،
فالنّاس تصدّق كلما يقال إليها.
ذهب إلى الببغاء واشتكى له إمرأته ، وقال : سأخبرها بكل شيء وأضطجع للموت كما جاء في نبوءة ملك الجان.
رد الببغاء ،وقد ساده الوجوم : إن متّ فمن سيقوم على الفقراء والضعفاء ، هل يسعدك أن يرجع بهم الحال كما كان في السابق؟
أعط إمرأتك ما تملك ، وعش في أرضك ، فالحياة لا تساوي جناح بعوضة ، ولا تحمل في قبرك إلا فعلك.
شكر التاجر الببغاء على النصيحة وذهب إلى القاضي وتنازل عن أملاكه لكن بقيت الأرض لأنّها وقف على أعمال الخير ،
وقال لامرأته أرجوك لا تقتربي منّي وإن فعلت سأرمي عليك يمين الطلاق.
الآن بإمكان كلّ واحد منّا أن يعيش الحياة التي يهواها ، فنحن لا نتشابه في شيء ، لكن هذا حكم القدر.
قالت المرأة : سأهدم البيت ، وأبني قصرا كقصور الملوك ، وسأعقد صفقات مع كبار التجار.
لم أحبّ يوما حياتك التي حرمتني فيها لتعطي لغيرك.
بعد مدة بنت قصرها ووضعت فيه ذهبها وآلات الطرب ، وعندما جاءت لتدخله إهتزت الأرض وانخسفت بالقصر وبكل ما فيه ، ولم يبق لها شيء.
فلقد باعت أيضا الدكاكين ، والمواشي ، كل ذلك يذكرها بالفقر ، والناس البسطاء ،
والآن يشاء الله أن تصبح منهم ، والأدهى أنها على وشك وضع مولودها.
كانت تخاف أن ترجع لعائلتها لكي لا ترى العطف في عيونهم ، وتمد لهم يدها ، قالت أهلك من الجوع ، ولا أسأل أحدا.
الموت بعزة النفس أهون عليّ من قبول الحسنة.
إقرأ أيضا: عائلة الجيران
جلست أمام خرائب قصرها تبكي ، وكان الناس يمرّون أمامها ولا يهتمون بها ، فيجيئ الفقراء ،
ويضعون لها طعاما أو مالا وهي تتعجّب كيف يعطي الفقير ويمنع الغنيّ؟ لكنها لم تأخذ شيئا.
مرّت بها ثلاثة أيام على هذه الحالة حتى إشتد بها الجوع وبدأت تستعطف المارة من أجل رغيف يابس.
ذات يوم مرّ التّاجر وهاله أن يجد أنّ بيته قد إبتلعته الأرض ، وأنّ إمراته تحوّلت إلى متشردة كريهة المنظر والرائحة ،
حملها إلى كوخ بناه في أرضه ، واعتنى بها شهرا حتى عادت إليها الحياة ،
وبعد قليل وضعت مولودا بهيّ الطلعة أسمته علاء الدين.
لاحظ التاجر أنها لم تعد تشتكي أو تتذمّر رغم عيشه البسيط ، كان يعمل في الأرض كبقيّة العمّال ، فلقد جعلها وقفا على الفقراء.
في أحد الأيام وقفت بجانبه ، وقالت سأساعدك إن كنت ترغب ، إستغرب منها وقال :
لكن هذا عمل الفقراء.
ردّت : ومالهم الفقراء ، لقد شاء القدر أن يحبس رزقهم في الدّنيا ، ورغم ذلك فهم يحمدون الله ،
ويقتسمون ما عندهم معك.
أعذرني يا رجل ، لقد أخطأت في حقك ، وبدّدت مالك.
ردّ عليها : أنت كلّ مالي ، وإبني هو روحي ، لنا كوخ يحمينا من المطر ، وعمل آكل منه ، إذا أنا أغنى الناس ، والحمد لله على هذه النّعمة.