الجندي المجنون
عباس جندي مجنون ساقوه إلى الخدمة الالزامية للقتال ، في الجبهة ضد جهة معينة ، رغم أن أهله عملوا جاهدين على إعفائه من الخدمة ،
ولكن سدى ، فالأطباء أجمعوا أن عباس قادر على حمل السلاح ، لأنه يميز الأيام كالخميس من الجمعة ،
ويعرف أيضا الألوان وبدون صعوبة ، وما هو بمجنون.
رفاقه في الجبهة الأمامية كانوا يثابرون على أكل قصعته ، وجعلوا منه سخرية في كل وقت لبساطته ، وعدم اكتمال عقله ،
والله الشافي الحافظ.
ورغم جنونه فقد كانت له روح تستولي على نفسه ، وكان حساساً تجاه الحزن وسريع الغضب ،
وفي أوقات حزنه ، لم تكن تخفي ظهورها في عينيه ، ولكن رغم ذلك واصل الجنود ممن معه إيذاءه.
مضايقات وسخرية : كانوا ينامون في السرداب المظلم ، الذي ينيره ضوء الفانوس النفطي الصغير ،
ويكادون يسمعون أصوات القنابل تنفجر ، ولكن رغم ذلك فعندما يعودون من نهاية القتال ،
يأكلون قصعتهم إضافة إلى قصعة عباس ، الذي كان يخفيها عنهم تحت سريره ولكن بدون جدوى.
ورغم ذلك عندما صحا من يومه ذات يوما جائعاً ، توجه إلى مكان القصعة ولم يجدها ،
فبلغ درجة من الجنون عبر عنها بكلام غير مفهوم ومبهم ، وبكي قليلاً ثم نمت عنه حركات هستيرية ،
وإيحاءات تدل على غضبه وحزنه في آن واحد ، أما الباقون فكانوا يضحكون ويستمرون في السخرية.
غضب : استحالت عينا عباس جمرتين يتطاير منهما الشر ، وصاح بصوت كالرعد : أرجو من الله ، أن ينسفكم بيوم واحد ،
زاد دعاءه سخرية زملاؤه ، ثم تغطى كل واحد بلحافه وناموا.
إقرأ أيضا: روفا والوحش
تفكير شارد : حتى جاء يوم من الأيام ، وأحس عباس بالضيق لقضاء حاجته ، وعليه أن يذهب الى الخارج بعيداً عن السرداب ،
فحمل ابريق الماء وخرج وترك الجميع نياماً ، وقد ثابر هذه المرة بإخفاء القصعة عنهم تحت السرير ،
يغطيها ببعض أوراق الصحف اليومية التي كانت تصل الجنود آنذاك.
وجلس يقضي حاجته ، ثم أخذه التفكير بعيداً ، فهو مسلوب الإرادة ولا يتمتع بالذكاء كباقي البشر ، فالكل يسخر منه ،
إنه سيرجع بعد قليل ، ولكن ماذا لو لم يجد قصعته؟ سيكون على صراع مع الجوع ، إذا تألبت عليه عوامل سوء الحظ.
القذيفة والسرداب : وفي الوقت الذي كان يفكر في مصيره بين رفاقه ، فجأة هوت قذيفة من بعيد على السرداب ولحسن حظه كان بعيداً ،
فانكمش بغتة يتقي شر خطر الموت الآتي ، في حين جعله هواء القذيفة يطير بعيداً ، وكانت كافية بإصابته بجروح.
حسن الحظ : بعد لحظات من سقوط القذيفة ، أفاق عباس بعد أن جمع قواه ، ومسح الدماء عن وجهه المغبر ،
ثم نهض وركض نحو السرداب المدمر ، وصل إلى المكان الذي تدمر بفعل القذيقة ، حملق في الظلام إلى السرداب.
الدمار والانتصار : ثم دخل إلى مدخل السرداب فانتفض مذعوراً ثم صاح :
قصعتي ، وجد بعد دخوله السرداب المدمر بفعل خراباً وناراً ، تأكل المجال فلم يهتم بالمشهد ،
فالجميع قد لقوا حتفهم ، فاستهدى فوراً إلى سريره المغطى بالتراب.
ثم أخرج من تحت السرير القصعة ، التي كانت سالمة لا يغطيها سوى أوراق الجريدة والتراب ،
وبدأ يعمل جاهداً ، بإزاحة التراب عنها ، ثم هرع بالقصعة إلى الخارج بسبب ألسنة النار والدخان ، الذي كاد أن يخنقه.
توقف عن السعال ، فتوجه بنظره الى السرداب وحملق فيه ، فاشتد قسوة على المنظر كأنه يستشف ما حصل ، ثم زمجر كأسد هصور ،
كأنه يهم بفريسته ، ينظر الى قصعته بنظرة من السعادة ،
فنهض وخاطب زملاؤه الموتى : حذرتكم ولم تنصتوا ، أنا عباس فاحذروا دعوتي أيها الأغبياء.