الحسد
كانت تحيا حياة كريمة مع زوج إنْ احتاجَت منه أي شيء يُحضرهُ لها مهما كلَّفه ، وكانت سعيدة به وبالحياة معه ،
فقد كانت تحبه من صميم قلبها غير أنه لم يجرحها أو يهينها مرة واحدة ،
ولكن لم يكن يَمقُتُها شيء سوى أنه لا يحبها ، فقد قرَّر الزواج فقط لأنه أصبح في السن المناسب ،
واختارها لموافقتها على العيش بمنزل عائلته.
كانت تشعر دوماً بالألم لانطفاء النور بنظراته إليها ، وكأنه معها جسداً بلا روح ،
فهي تلك المرأة الرومانسية ذات الأحاسيس المشتعلة ، وهو ذلك الرجل الذي لا يعرف من الحب والرومانسية سوى اسمهما.
مما جعل نيران الحسد تلتهمها من رؤية أي إمرأة يحبها زوجها ، حتى لو كانت من أقرب المقربات لها ،
فأصبحت تتمنى دوماً لو تشتعل المشاكل بحياة كل إمرأة يحبها زوجها ، حتى لو وصل الأمر بهما إلى الطلاق.
عاشت سنتين تمنَّتْ لو تُرزَق بطفل ، لعلها تستطيع كسب حبه ، فلم تدع طبيباً إلا وزارته ،
فأجمعوا على ألا مانع من حملها ، وبكل مرة ترافقها حماتها كانت تقول لها : إذاً لم يأذن الله بحملك.
فكانت ترد ، بضيق لا تستطيع إخفاءه : ولمَ لا نقول بأنَّ إبنكِ لا يُنجِب؟
فأصبحت حماتها تمْقُتُها وتشعر بالغيظ منها ، فتقومُ خلسة بتحريض إبنها على زوجته قائلة :
زوجتكَ تتهمك بأنك لست رجلاً.
مما جعلَ نيران الغيظ تشتعل داخله ، ولا تنطَفِئُ أياماً طويلة ، فيزداد عناداً لها عندما تقول له :
دعنا نذهب إلى الطبيب للاطمئنان على وضعك ، فيردُّ كما قالت له أمه بعد أن يتعالى صُراخه :
تريدين القول بأني لست رجلاً ، لو أنَّ أمكِ ربَّتْكِ لم تقولي ذلك.
ثم يخرج إلى المنزل ويتركها غارقة بدموعها ، فتَنْفَرِجُ أسارير أمه لأن إبنها يأخذُ بثأره دون أن يُغَلِّطَ نفسه ،
فأصبَحَتْ تسعى دوماً لإقناعه بأنَّ الحمل سيحصل عندما يحين وقته ، فلا يوجد رجل بعائلتهم لم يُرزَق بأطفال.
إقرأ أيضا: قصة هينة الجزء الأول
مع مرور سنة أخرى ، لم يتغير رأيه بالذهاب إلى الطبيب ، فأصْبَحَت تُبادله برود المشاعر ، وتُعامل كل فرد من عائلته باشمئزاز ،
وازدادَ تمنّيها بأن لا ترى أيّ إمرأة محبوبة من زوجها ، وتضاعفَ حسدها لدرجة أنها وضعت برأسها كل المقرّبات إليها ،
ابتداءً من أخواتها لقريباتها وجاراتها ، ووجَّهَت تركيزها بأنْ تُحَرّضُهُنَّ على افتعال المشاكل مع أزواجهن لأي سبب كان ،
كأنْ تحاول إشعال الشك داخلَهُنَّ أو تقوم بجعل أي فعل يقوم به أزواجهن تافهاً لا يمتُّ للحب بصلة ،
وعندما ترى أنها أصابت الهدف لو من بعيد ، تشعر براحة لا مثيل لها.
بقيت على ذلك الحال لحين أتَمَّت خمس سنوات من زواجها ،
وبليلة لم تتوقع أن تسمع ذلك الخبر ، قيل لها بأنَّ ابنَ عمكِ قد عاد من السفر.
تذكَّرَت أيام حبها لابن عمها ، لكنه لم يكن حباً من طرف واحد كالذي تعيشه مع زوجها ،
بل كان يحبها لدرجة أنه أمضى سنوات بجمع تكلفة سفره لبلد أخرى لعله يجد عملاً يعود عليه بنقود تجعله يستطيع الزواج منها ،
مع توفير حياة كريمة لها.
لكن عندما أُغْلِقَتْ الأبواب في وجهه ولم يجد عملاً يكفيه إلا لسدّ رمقه ، أوصل إلى عائلته خبر زواجه كي يوصلوه لها ،
مما جعلها توافق على أول عريس تقدّم لخطبتها والذي هو زوجها.
ذهبت لمنزل عمها للترحيب بعودته ، ولسؤاله عن حاله ، ومعرفة كيف أمضى أيامه في الغربة ،
وسحب الكلام منه لمعرفة هل أحبَّ زوجته أم تزوجها لأنها إبنة البلد كي يستطيع الاستفادة منها ، فكان رده كالصاعقة :
أنا لم أتزوج يا إبنة العم ، لكن عندما رأيتُ أنَّ الأبواب مغلقة في وجهي ، ولا مجالَ حتى للرجوع ،
خشيتُ أن تضيعَ زهرة شبابكِ بانتظاري ، ولأني أحبك أردتُ لك حياة كريمة مع رجل غيري ،
فأوصَلْتُ خبر زواجي لعائلتي لعلكِ حال سماعه تكرهيني وتتزوجي ، كوني عانيتُ سنوات أخرى في تجميع النقود لعودتي.
إقرأ أيضا: قصة إنتقام
لم تستطع تمالك نفسها ، وانهالت دمعتها أمامه عنوة عنها ، وعندما رآها توشك على البكاء ،
توسّل لها بعينين دامعتين وصوت أوشك على البكاء أيضاً :
أرجوكِ لا تبكي ، دموعكِ أغلى عندي من روحي ، فأنا سأبكي اليومَ عني وعنك.
نظرت له بدهشة عارمة ، وأجْهَشَت بالبكاء ، واحْتَقَرَت نفسها كيف استطاعت أن تكره من أحبَّها كل تلك السنوات ،
وتحب من عاملها وكأنها بلا قيمة.
عادت إلى المنزل بدون أن تُدلي بكلمة واحدة ، وعندما رأتها حماتها بعينين مُنتَفِخَتَين ، سألتَها عن سبب بكائها ،
وعندما رفضَت أن تُجيبها ، سلَّطَت زوجها عليها ، وما إن دخل غرفتهما حتى سألها :
قالت أمي أنكِ عدتي من منزل عمكِ ودموعك تملأ خدودك.
فردَّت بصراخ : ما هذا الكذب؟ لم يكن بعيناي دمعة واحدة ، لكن ما هذه الشخصية المهزورة التي تمتلكها أنت؟
تستطيع أمك التأثير عليكَ ببضع كلمات ومهما تحدَّثتُ أنا معك ، كأني أُكَلّم الحائط؟!
تمالك نفسه ألا يضربها ، فاعتصر وجهها بيد واحدة وكاد أن يطحن أسنانه وهو يقول :
هذه آخر مرة سأسكتُ عن صُراخِكِ في وجهي.
ثم خرج كما اعتاد وتركها غارقة بدموعها ، والسعادة تملأ قلب أمه.
مضى الليل عليها لم تستطع أن تُغْمِضَ جفناً واحداً ، واسترجَعَت كل أيام الحب الذي عاشتها مع ابن عمها ،
والندم يعتصر فؤادها على زواجها من غيره ، فأصبحت كل بضع دقائق تُحادث نفسها قائلة :
أنا لا أستحق حبه ، كم أنني بلا وفاء ، صدَّقتُ أنه خانني وتزوَّج غيري ،
فأحببتُ بعده مباشرةً ، ونسيته كأنه لم يكن بحياتي يوماً ما.
ثم تعود دموعها للتساقط وهي تسمع الأغاني الحزينة التي كانا يسمعانها معاً ، وأغاني الحب التي كان يُهديها لها ،
ولم تستسلم للنوم وتتوقّف عن الذكريات إلا عندما سَمِعَت صوت زوجها يسأل أمه عنها ، فقالت في قرارة نفسها :
سأجعَلُكَ ترى وجهي الثاني يا ابن أمك.
إقرأ أيضا: قادر يعطيك ويشقيك وقادر يحرمك ويسعدك
قرَّرَت أنْ تفتعل المشاكل كي تحظى بالطلاق بأسرع وقت ، ولم تجد حلاً سوى أنْ تقوم باستفزازه كي يفقد أعصابه ويطلقها.
ففي اليوم التالي عند عودته من العمل قالت له : أنا أريد ولداً.
ردَّ باستهزاء بدون أن ينظر إليها : غداً سأحضره لكِ من البقالة المجاورة.
فقالت بغيظ : إنكَّ ثقيل الظل لا تحاول أن تُلقي الدعابات ، أنا أريد أطفالا ،
، وأستطيع الإنجاب ، وأنتَ لا تنجب ، إذاً أنتَ عقيم وتريدني أن أحيا معك كل حياتي دون أطفال.
رمقها بنظرة غضب : تقصدين أني لست رجلاً. نعم ، أنت كذلك.
لم يشعر بنفسه إلا وهو يضربها ، فاقتحمت أمه الغرفة وأبعدته عنها ، ثم طلبت منه الخروج من المنزل وقالت لها :
هداكِ الله يا ابنتي ، لماذا غلطتي بحقه؟
فردت بغضب : أخبري إبنكِ إنْ لم يُطلقني فسأرفع دعوى قضائية ضده وأتهمه بأشياءً لن يرى النور بعدها لحين وفاته.
ثم أخذت كل أغراضها ورحلت لمنزل أهلها ، وبعد أنَّ قصت لهم ما حدث ،
وقفوا جانبها وساندوها بطلاقها كونها لم تطلب منه أكثر من حقها.
رأى زوجها طلبها الطلاق فرصة للخلاص منها ، كونه لم يحاول حتى مصالحتها ،
فطلَّقها بعد أن أصرَّت أن تتنازل له عن كافة حقوقها.
ما إن سمع ابن عمها ذلك حتى حلَّق فرحاً ، وقرر إيجاد عمل بأسرع وقت ، كي يطلب يدها للزواج ،
ولم يمضي شهر حتى استطاع إيجاد عمل كحارس عمارة في مناطق الأغنياء ، مع غرفة أسفل السلّم للمبيت ،
فشعر أنَّ أموره قد فُرِجَتْ من أوسع الأبواب ، فأمضى ثلاث أشهر بالعمل ليلاً ونهاراً ليجني نقوداً أكثر ،
كي يستطيع إقامة فرح يليق بحب حياته ، ولو دعى إليه القلة من الأقارب.
إقرأ أيضا: المشعوذ الجزء الأول
جاء اليوم الذي طالما حلمت به ، وأتى ابن عمها مع والديه لخطبتها ، فوافقت ولم تكترث لوضعه المادي المتردي ،
ولا للفرق الذي ستشعر به مقارنة بحياتها السابقة ،
ولأنَّ والديها كحال أغلب الآباء قاموا بتوعيتها لكنها أصَرَّت على الزواج بابن عمها قائلة :
إنه عندي أغلى من الذهب ونقود الدنيا ، ولن أخسره ، فقد تزوَّجتُ مَنْ وضعه المادي جيد ، لكني لم أكن سعيدة معه ،
أنا أريد أن أعيش الحب المتبادل ، كي لا أعاني ، فالحياة لا تُعاش إلا بالحب.
بعد مضي أسبوع واحد أقام لها حفل زفاف بنفس الشارع الذي سيقطنا به وأمضيا بضعة ساعات من أجمل أيام حياتهما.
مضت ثلاثة أشهر ، روى بها زوجها عطشها للحب ، فذهبت بها بشكل يومي لأخواتها وقريباتها وجاراتها السابقات ،
تحكي لهنَّ عن الحب الذي يتعامل به زوجها معها ، والرومانسية التي تعيشها معه ليلاً ونهار غير أغاني الحب ،
وكلمات الغزل التي يُلقي بها على مسامعها صباحاً ومساء.
لأنَّ طبيعةَ عمل إبن عمها أنه يتعامل مع الأغنياء ، كانوا يطلبون منه دوماً أن يُحضِرَ زوجته كي تساعد زوجاتهم بالطبخ والتنظيف ،
لكنه كان متردداً ، يتجاهلهم تارة ، وتارة يقول أنها لا تزال عروساً ، إلى أن قال في قرارة نفسه :
وما المعيبُ إن ساعدت المرأة زوجها ، طالما عملها حلالاً وبمنزل سيدات المجتمع الراقي.
فقال لها ذات يوم : ما رأيكِ أن تعملي ونتساعد سوياً كي نتحسن مادياً ، وننجب طفلاً كما كنا نحلم؟
فعملكِ وجنيكِ للنقود أفضل من زيارتكِ لهذه وتلك.
وافقت على الفور وهي تشعر أنَّها ستطير من الفرح ، فطالما حلمت بأن تعملَ بأيّ شيء ،
لكن طليقها لم يسمح لها البتة ، كونه على نفس القول دوماً :
لا يوجد عندي نساء تعمل ، فأنا مُكَلَّف بتلبية كل احتياجاتكِ ولأنني ألبي كل طلباتكِ فلا مبرر لعملك.
لم يكن يعلم أنَّ بعرضه العمل عليها ، قد أشعل نيران الحسد داخلها من جديد ولكن من نوع آخر.
ما إنْ دخلَت أوَّل منزل من منازل الأغنياء ، حتى كادت عيناها أن تَخْرُجا من مكانهما ، فلم ترى كل تلك الفخامة إلا بالمسلسلات والأفلام.
إقرأ أيضا: تزوجت ضريرا
بعد مضي شهران ، شكَّت أنها حامل ، وبعد أن تأكَّدت من حملها ، أخبرَت زوجها وحلَّقا معاً في سماء الفرح.
حاول إقناعها أن تتوقف عن العمل ، كي لا يتأثر حملها لكنها أصرَّت أن تستمر لأجل ادخار مصاريف ولادتها ،
وبعد مضي شهر قرَّرت أن تزور بشكل شبه يومي أخواتها وكل قريباتها ، تقضي عندهم بقية اليوم بعد إنهاءها العمل ،
كي تقوم بتوفير ثمن أكلها وشربها ، وادّخار نقودٍ قدر المستطاع ، كي تزيد عن مصاريف ولادتها ، كونها باتت تطمح للغنى.
بعد بضعة أشهر ، أصبحَت تشعر بالسخط على حياتها ، لأنها تُرهَقُ بالعمل ولا تجني شيئاً يُذكر ،
فأصبحت كلما تدخل لمنزل ، حتى القريبين لها ، تنظر لكل شيء يملكونه بعينين حاقدتين وحال لسانها دوماً يقول :
لماذا لستُ أنا صاحبة هذا المنزل ، لماذا هذا الأثاث ليس ملكي ، ولماذا هذه العيشة المُرَفَّهة ليست لي ،
ما الذي ينقصني عن هذه وتلك حتى لا آخذ نصيباً من الغنى الذي أعطتهم الحياة إياه؟
لم يتوقف الأمر عندها على السخط لوضعها ، بل أصبحت تتمنى زوال النعمة لكل من وضعه المادي أفضل من وضعها ،
إلى أنْ وصل بها الحال أنها قررت أن تلفظ بلسانها كلما رأت شيئاً جميلاً عبارة :
يا لروعته وجماله! ، كم كلَّفَكم شراءه؟!
اعتقدَت أنها عندما تلفظ تلك الكلمات ستستطيع أن تصيب أصحاب النعمة بالحسد ،
مما يجعل النعمة تزول عنهم تدريجياً كأن يُصابَ أحدهم بالمرض ، فيجعلهم ذلك يصرفون أموالاً كثيرة على العلاج ،
أو يتعرَّضون لضائقة مادية تجعلهم يئِنّون لحالهم كما تفعل هي.
بدأ أقرباؤها يشعرون بالانزعاج منها ، وقلوبهم تنقبض قلقاً عندما تدخل إليهم ، فباتت نظراتها وكلامها تصيبهم بالضيق ،
فأصبح جميعهم وبشكل تدريجي ، يتجَنَّبون استقبالها ببيوتهم ، حتى أخواتها ،
مع أنهن حاولن قدر الإمكان استيعابها ، لكن أزواجهن طردوها بشكل صريح.
إقرأ أيضا: صندوق البريد
بعد أن أغلق كل أقاربها بيوتهم بوجهها ، ركَّزت كل انتباهها على بيوت الأغنياء ،
وأصبحت تحاول بكل مرة أن تضع عيناها على كل شيء وتمدح جماله وذوقه لعلَّ صاحبة المنزل تعطيها أيَّاً من الأشياء التي تُصيبها بعينيها.
مع أنَّ جميع النساء اللواتي تعمل لديهن ، تصدَّقْن عليها مراراً وتكراراً وأعطَيْنَها أكثر من حقها ،
رأفة بحالها كونها أمٌّ لطفل رضيع ، لكنها لم تتوقف عن قول تلك الكلمات مما جعَلَهُّن يتَّفِقْنَ على طردها ،
وإحضار إمرأة تعمل بجد ولا تطلب أكثر من حقها.
بعد أن خسرت عملها وكل قريباتها ، أصبحت تشعر بالكره نحو زوجها ، كونه لم يستطع بعد مرور أربعة سنوات أن يجعلها تحيا حياة تساوي التي كانت تحياها سابقاً ،
وأصبحت تتحسّر على السنوات التي عاشتها مع طليقها.
سمعت أن طليقها بعد زواجه ، استطاعت زوجته أن تؤثر عليه وعلى أمه بأسلوبها ،
لدرجة أن أمه وقفت جانبها لإقناعه بالذهاب إلى الطبيب ،
وبعد عملية بسيطة ، رُزِقا بطفلة ، فكان ذلك الخبر سبباً لتضاعف كرهها لابن عمها ،
كون عودته وكلامه معها أعمى عيونها وجعلها تصمم على طلاقها.
فأصبحَت تشعر بكلمات الحب والغزل التي يقولها لها على الدوام ، كأنها من أقذر الشتائم ،
وباتت نظراتها له وطريقة كلماتها معه أشبه بالازدراء ، لكنه لم يتأثر البتّة بذلك فكان شعور الرضا بعمله ، واحترام الناس له ،
وسعادته بابنه الذي سيصبح شاباً يُسانده مستقبلاً ، يُغَطّيان على تبدّل حالها معه.