الخليفة ومعاقبة الحاوي
إن هناك الكثير منا من يضحي بعمره كله في تعلم مالا يفيده ولا ينفعه ، بل يصبح صنيعة كل ما صنعه في حياته ،
لا يقدم له جديد هو أو من حوله فإليكم قصة الخليفة ومعاقبته للحاوي.
تبدأ الحكاية عندما أقبل رجل غريب على مجلس أحد الخلفاء ، وبالطبع لم يكن يُسمح لكل من هبّ ودبّ بدخول مجلس الخليفة.
فرواد المجلس إما شاعر أديب له إبداعات وإنجازات لا تصدر إلا من إنسان ذكي أريب ،
أو قد يكون أحد الولاة الذين حضروا ليناقشوا الخليفة في أوضاع البلاد ، وينظروا معه كيفية النهوض بأحوال العباد ،
وربما كان صاحب مَظلمة.
احتار في حل مشكلته ، وبعد أن لفّ ودار على أهل القرار والمسئولية ، لم يجد غير الخليفة مُنصفاً لإقامة حدود العدل الإلهية.
ولكن صاحبنا الغريب عن المجلس لم يكن من الأصناف الثلاثة ؛ فهو ينضمّ تحت لواء رابع يسمح له بين الحين والآخر بالدخول ،
ومجالسة الأمراء والفحول ، وأصحاب هذا الصنف هم مَن امتلكوا مهارة خاصة ،
أو تمتّعوا بمهارة غير اعتيادية ، وكان الرجل أحد هؤلاء.
بداية الاستعراض
وبعد أن تناقش الخليفة مع ولاته ، ونظر في المظالم المقدمة ، واستمع للجديد من الشعر والحِكَم ،
طلب من هذا الغريب أن يُعرّف بنفسه ويقدّم ما عنده.
فقام الرجل وعرّف باسمه ونسبه ، ثم راح يتكلم في ثقة عما يملك من مهارات لم يرها الخليفة من قبل ،
ولم يسمع عنها الحاضرون في حياتهم الطويلة.
وفي حركة استعراضية تثير فضول الحاضرين ، توسّط الرجل المجلس وأخرج من جيبه قطعة قماش سوداء مُعتمة ،
وطلب من أحد الحاضرين أن يعصب بها عينيه (أي الغريب) ويتأكد من أنه لا يرى شيئاً ؛
فأسرع أحدهم في حماس لتنفيذ مطلبه ، وبعد أن تأكد الغريب من أن الفضول قد استبدّ بجمهوره ،
إقرأ أيضا: قصة حفظ الجوار من أخلاق الإسلام
أخرج من جيبه جراباً صغيرا ، وبدأ يخرج منه مخيطا (إبرة خياطة) طويلا ،
وقذف به في اتجاه عمود خشبي ، كان يقف مقابلاً له تماماً ؛ فاستقرّ المخيط في العمود.
أسمع أحد القراء يقول في تهكّم : أهذه هي كل مهارته ، ما الجديد في ذلك ؛ فأنا أستطيع أن أفعله بكل سهولة؟
مهلاً أيها الصديق ، فالرجل لم يُخرج كل ما عنده بعد ، فبعد أن استقرّ المخيط في مكانه ، مدّ الرجل يده في جرابه ،
وأخرج مخيطاً آخر ، وسط تساؤل الحاضرين ماذا سيفعل بمخيطه الجديد.
وقبل أن يصل تساؤلهم إلى ألسنتهم ، كان الرجل قد مال بجسده قليلا ، ثم قذف مخيطه الجديد في اتجاه العمود ،
وإن شئنا الدقة فقد قذفه في اتجاه المخيط السابق.
ووسط دهشة الحضور وتعجّبهم تحرّك المخيط في الهواء ؛
وكأنه يعرف طريقه ليخترق ثقب المخيط السابق ، قبل أن يستقرّ في هيكل العامود.
ولم يجد جلساء الخليفة غير فغر أفواههم في تعجّب وأن يقولوا : “سبحان الله” ، وقبل أن يفيقوا من صدمتهم ،
كرر الرجل فعلته بإخراج مخيط ثالث ، وقذفه تجاه المخيط الثاني ؛ ليحقق نفس النتيجة ،
ومن بعد الثالث جاء الرابع ، ثم الخامس ، إلى أن وصل عددهم إلى عشرين مخيطاً.
وما إن انتهى من استعراضه ورفع العصابة عن عينيه ، أخذ يتأمل وجوه الحاضرين ؛ حتى اطمئن وزادت ثقته بنفسه ؛
فلقد رأى في العيون إعجابا ، وعلى الشفاه كلمات استحسان محبوسة ، تنتظر أن يُبدي الخليفة إعجابه أولا ؛ لتخرج في فرح وسرور.
رد فعل الخليفة
وبعد أن تجوّل في وجوه الحاضرين امتدّ بصره للخليفة ؛ فوجده لا يحرّك ساكنا ، ولا تبدو عليه آثار أي انفعال.
فتقدم خطوات ، وقال له : أرجو أن أكون قد أرضيت مولاي الخليفة.
فقال له الخليفة : أنت صاحب مهارة لا شك في ذلك ؛ ولكن يشغلني كم احتجت من عمرك لتصل إلى هذا المستوى؟
إقرأ أيضا: شد المعصم لمن أرادت إسعاد الأصم
انتفخت أوداج الرجل ، وقد ظنّ الخليفة قد أعجب به ، وقال في تواضع مصطنع :
لقد تدرّبت على هذه المهارة لمدة عشرين سنة يا مولاي.
هزّ الخليفة رأسه ، ونادى الحاجب وأمر بصرف عشرين ديناراً للغريب صاحب المهارة ،
وقبل أن يستدير الحاجب منفّذاً أمر الخليفة ، أضاف إليه طلباً آخر ، وأمر باستدعاء الجلاد وضرب الرجل عشرين جلدة.
وهنا تعالت صيحات الرعب من الغريب ، وهو لا يعرف لماذا يُضرب ، وما الذنب الذي جناه؟
فأجاب الخليفة : تستحقّ جلدة سوط عن كل عام ضيّعته فيما لا ينفعك ولا ينفع المسلمين ،
وفي رواية أخرى للحكاية ، يقول الراوي إن الخليفة جَلَد الرجل فقط ، ولم يمنحه أي مال.