الليلة الأخيرة
الليلة الأخيرة
بعدما إنتهى من صلاة العشاء بالمسجد ، عاد أدراجه للبيت مرة أخرى ، يسير بخطوات بطيئة ،
متكئا على عصاه ، فلقد بلغ الخامسة والسبعين من العمر ، إلا أنه ما زال يحتفظ ببعض الصحة ،
إذا أخذنا في الإعتبار أن الضغط والسكر وإلتهاب المفاصل ، أمرا طبيعيا لمن في مثل عمره
صعد الدرج حيث تقع شقته بالطابق الثاني ، بخطوات هادئة دخل وترك الباب مفتوح ،
سرعان ما عاد مرة أخرى يحمل في يده صحن به بعض بقايا الطعام ، وفي اليد الأخرى زجاجة بلاستيكية بداخلها ماء.
قام بوضع الصحن بجوار باب الشقة ، أفرغ المياه بداخل إناء أخر ،
فلقد إعتاد على فعل ذلك الأمر منذ زمن ، حيث يقوم بوضع الطعام للقطط الجوعى.
فعدما سافر إبنه وتزوج بالخارج وتزوجت إبنته في محافظة تبعد عنه كثيرا ، وتوفيت زوجته ، أصبح يعيش وحيدا بين جدران بيته.
يبدأ يومه بالإستيقاظ لصلاة الفجر بالمسجد ، ليعود بعدها يقرأ القرآن حتى السابعه صباحا ،
وبعدما ينتهي يتناول إفطاره الذي يقوم بإعداده ، ليعود للجلوس مرة أخرى في الشرفة المطلة على الشارع الضيق الذي يقطن به ، المزدحم بالمارة دوما.
يجد تسليته الوحيدة في هذا الأمر ، خاصة أنه لا يزوره أحد سوى إبنته التت تأتي في بداية كل شهر ،
إقرأ أيضا: زوجتي أحيتني ثم ماتت
لتعد له بعض الطعام الذي قد يحتاجه وتطمئن عليه ، يقوم بإعطائها مبلغ شهري من المعاش الذي يتقاضاه ،
فهو يعلم بظروفها الصعبة وأبنائها الثلاث وحالة زوجها الغير مستقرة ماديا.
لا يلوم عليها قلة زيارتها له ولا إتصالاتها القليلة ، فهو يعلم العبئ الواقع على كاهلها.
بعدما فرغ ، عاد للداخل ، أغلق الباب ، جلس على الأريكة التي إعتاد الجلوس عليها دوما بجانب زوجته ،
يتحدث إليها بالساعات كما لو أنها لم تفارقه.
يراها بجواره ، بوجهها المشرق وابتسامتها الحانية وحديثها العذب ، كقطرات الندى التي تنساب على أوراق الشجر لتجعلها ترقص طربا كل صباح.
يتحدث إليها بما يجيش به صدره ، يشكو لها من قسوة الفراق والوحدة بعد غيابها.
تنساب من عينيه دمعة حارة ، يشعر بيدها تمتد لمسحها ، يشعر بها تربت على كتفه بحنان ،
ينظر إليها مبتسما ، فتبادله الإبتسام ، ينهض وهو يخاطبها قائلا :
أنا ذاهب للنوم يا عزيزتي.
يسمع صدى صوتها يرد عليه قائله:
سوف أتبعك بعد قليل.
يتجه نحو غرفته ، يستلقي على فراشه ، يردد الأذكار التي إعتاد عليها قبل نومه ، بعدما فرغ ،
رأى زوجته تفتح باب الحجرة وتدخل لتنام بجواره ، همست في أذنه قائلة :
لقد إشتقت إليك كثيرا يا عزيزي
وأنا أيضا يا عزيزتي
سأنتظرك الليلة.
أغمض عينيه إستعدادا للنوم ، مر شريط حياته أمام عينيه ، رأى نفسه طفلا ذاهبا للمدرسة برفقة والده ،
أمه تحتضنه بشدة عندما أنهى تعليمه الجامعي ، أول لقاء بينه وبين زوجته ورفيقة حياته ،
عرسهما والجميع يرقصون فرحين بهما ، فرحتهما بمولودهما الأول ، جنازة زوجته.
شعر بثقل في قدميه ، جسده خفيفا يرتفع للأعلى ، فتح عينيه بصعوبة ، رأى وجه زوجته يطل عليه من أعلى مبتسمة
تخاطبه قائله :
أنا في إنتظارك يا عزيزي.
شعر بإقتراب أجله ، رد عليها قائلا:
أنا قادم يا عزيزتي.
ردد الشهادة ثلاثا وأغلق عينيه للمرة الأخيرة.