المتاهة العجيبة الجزء الأول
المتاهة العجيبة الجزء الأول
كان أحد الرجلين واسمه إلياس بناءً ونحاتا بارعا يسكن غرب القرية ، يحب صناعة تماثيل لأشجار الصنوبر الضخمة التي تشتهر بها قريتهم ،
المهارة والحرفة التي تعلمها من والده الراحل.
ويجني إلياس قوت يومه منها أيضا بالإضافة للبناء ، ليعيل أسرته الصغيرة المكونة من ثلاثة أفراد ،
هو وزوجته وابنه الصغير الذي يحب التنزه.
وفي الجهة الشرقية للقرية كان يعيش فؤاد ، المعماري البارع والإنسان الخلوق ،
الذي لطالما أعجب منذ طفولته بالبنايات المرتفعة والأسوار الشاهقة لعاصمة بلادهم.
فكبر وحلم المعماري والتصميم ينمو داخله ، فصار بعد التعلم وإتقان حرفته أمهر معماري في البلاد واشتهر اسمه فيها كالنار في الهشيم.
وفي أحد الأيام فوجئ إلياس وفؤاد بمبعوثين من الملك شخصيا ، يوصلان لهما رسالة أمرهما فيها الملك بالقدوم إليه على الفور ،
لم يخبرهما الملك في الرسالة ولا حتى المبعوثين بالغرض من حضورهما للعاصمة ،
كل ما سمعاه وقرآه هو الأمر بالقدوم لحاجة ملحة يريدها الملك.
فحمل كل منهما متاعه وركبا القافلة لمرافقة المبعوثين تجاه العاصمة.
وتعرّف الرجلان على بعضهما البعض لأول مرة أثناء الرحلة القصيرة ،
وسرعان ما ألف الحرفيان بعضهما وأكملا طريقهما وكل واحد منهما يحكي قصصه القصيرة وتجاربه للآخر ،
والابتسامة لا تفارق محياهما.
وبعد ساعات من سير القافلة الصغيرة وصلوا أخيرا للعاصمة ،
كانت كما عهدها الرجلان كبيرة وعامرة بأهلها الصاخبين وتجارها الكثيرين.
لكنهما هذه المرة يدخلانها بأمر الملك وبرفقة موكب ملكي أيضا ،
فكانت رؤية الناس يفسحون المجال لهما للمرور ، ونظراتهم المستغربة من جهلهم بهويتهما تتبعهم في الطريق ،
كانت أمرا غير معتاد بالنسبة للحرفيين المتواضعين.
إقرأ أيضا: الطفل الأمريكي ألكساندر فرتز
أخبرهما أحد المبعوثين ألا يعيرا بالا لما يفكر به أهل العاصمة عنهم ،
فهم مستغربون فحسب من أن رجلان من العامة يسيران في موكب رفيع كهذا ،
وكل ما يشعرون به تجاههما على الأرجح هو الحسد ، وأن أكثر ما يريدونه الآن هو الجلوس مكانهما في الموكب.
ظل المبعوث الثاني صامتا طوال الطريق ، فيما شعر الضيفان على العاصمة بالغضب تجاه كلام المبعوث الأول ،
لكنهما تغاضيا عنه بعد أن وقعت عيناهما على بعضهما وأومئ كل واحد منهما للآخر بالصمت إلى حين الدخول على الملك.
ولما وصلا لوجهتهما صُدما من المبنى الضخم الذي لم يريا مثيلا له من قبل في حياتهما.
كان قصر الملك عملاقا كمخلوقات بلاده ، يرتفع مئات الأذرع في السماء ،
وتمتد جدرانه الطينية الصلبة على طول الطرف الشمالي للمدينة بأكمله ،
وتعج أسواره بالحراس الملكيين الذين يراقبون كل صغيرة وكبيرة تحصل داخل القصر.
ولم ينتبه الحرفيان لدخولهما لباحة القصر حتى سمعا المبعوث الثاني يناديهما للهبوط من العربة.
كانت ساحة القصر واسعة رحبة ، يملئها الخدام والزوار والعوام الذين يأتون رافعين مطالبهم للملك أو لاجئين إليه للتقاضي.
ولج الحرفيان باب القصر خلف المبعوثين ، وسارا في الرواق الفسيح الذي يؤدي لعرش الملك ،
شعرا بالرهبة من المكان لكنهما ثبتا نفسيهما كي لا يفقدا رزانتهما أمام الملك.
ولما دخلوا على الملك أخيرا كان الأخير جالسا على عرشه ، فأمر المبعوث الثرثار الرجلان بالجلوس أمام الملك ،
واضعا لهما كرسيان صغيران قبالة العرش ، ثم خرج هو والمبعوث الثاني تاركين الرجلين أمام الملك ،
والذي نظر إلى الحرفيان نظرات لم تحمل أي خير ، ودار بينهم الحوار التالي :
قال الملك وهو يضع يده على خده : “لدي أمر أريدكما أن تنفذاه أيها الحرفيان البارعان”
إقرأ أيضا: المتاهة العجيبة الجزء الثاني
رد الرجلان بسرعة : “أمرك يا مولاي ، ما هو؟”
قال الملك : “أريدكما أن تصنعا متاهة”
ردّ الرجلان باستغراب : “متاهة؟”
وبلهجة آمرة قال الملك : “نعم ، ابنيا متاهة لن يستطيع أحد الخروج منها ، ولو كان أمهر المستكشفين أو أذكى العباقرة ،
ولا حتى أنتما أيضا.
أريدها أن تكون مستحيلة الفهم ، سجنا أبديا لمن يلجها.
قال فؤاد المعماري بنبرة متوترة : “هل تسمح لنا بسؤال يا حضرة الملك؟”
عقب الملك قائلا : “اسأل ما تشاء”
“ما غرضك بمتاهة كهذه؟”
تنهد الملك وهو يقف من مجلسه قائلا : هل سمعتما بغول الغابة؟
أجاب الرجلان : “نعم يا مولاي ، وحش الأراضي الجنوبية”.
أكمل الملك : في الأشهر الأخيرة بلغتنا مئات الشكاوي من سكان بعض القرى المجاورة للغابة الخضراء في الشمال عن اختفاء أنعامهم ودوابهم.
لم أعر بالا للأمر في البداية فقد حسبت أنه ذئب على الأغلب ،
لكن وبعد مرور مدة من الزمن بدأ بعض الفلاحين في الاختفاء أيضا ،
وكان يُعثر على بعض القطع الممزقة من الثياب في أماكن اختفائهم.
ثم اقترب الملك من الرجلان وأردف : فشعرنا جميعا بالخوف ، لذا أرسلت بضع رجال من الحرس الملكي لتفقد الوضع ،
لكن وللأسف لم يكمل أولئك المساكين يومهم الأول في الغابة الخضراء حتى اختفوا بدورهم ،
وهذه المرة عثر على أجزاء منهم مرمية بين الأشجار في عمق الغابة.
يتبع ..