المقامر

المقامر

ما أن قام بفتح باب منزله ، حتى قابلته زوجته بعاصفة من السباب الذي اعتاد عليه منذ زمن ولم يعد يحرك به ساكنا.

في بداية الأمر كان يرد إليها الصاع صاعين ، دائما ما كانت تنتهي ليلتهما بشجار عنيف يصل للتشابك بالأيدي ،

لا يهدأ إلا بعد تدخل الجيران للفصل بينهما.

مع كثرة شجارهما الدائم ، اعتاد الجيران على ما يحدث ولم يعودوا يعيروهما إهتماما ،

حتى أن اليوم الذي لا يسمع صوتهما ليلا ، يظن الجميع أن خطبا ما قد أصابهما.

واصل سيره بخطوات مترنحة نحو حجرته ، جذبته بقوة من الخلف مما أدى لتمزق القميص الذي يرتديه وهي تخاطبه صارخة :

يوميا تعود ثملا بعد منتصف الليل ، لتغط في نومك ولا تستقيظ إلا بعد غروب الشمس ، لا تتحمل أي قدر من المسئولية.

إستدار إليها وهو يرد قائلا : لقد حفظت حديثك عن ظهر قلب ، لا داعي لأن تكملي سأكمل أنا.

وأردف قائلا : منذ عامان لم تنفق على المنزل جنيها واحدا ، ولدك يعمل لأكثر من إثني عشرة ساعة يوميا ليكفي مصروفات البيت بالكاد.

كلما دق أحداهما الباب طالبا الزواج من إبنتك ، يفر مسرعا بعدما يعلم حقيقتك.

صمت للحظات وهو ينظر إليها وأردف قائلا :
أليس هذا ما تريدين قوله؟

قالها وهو يتراجع للخلف بضع خطوات من أثر الخمر الذي أذهب عقله ، وبعدما إستطاع السيطرة على قدميه ، أكمل حديثة قائلا :

كدت أنسى أهم جزئية ، حياتنا أصبحت كالمشردين والمساكين بعدما قمت ببيع البناية التي ورثتها عن أبيك ،

وخسرت المال على طاولات القمار.

كان يتحدث وهو يقوم بتقليد حركة جسدها وطريقة حديثها ، وما أن إنتهى حتى إنفجر ضاحكا بصوت عالي قائلا :

أرأيتي إنني أحفظ ما تريدين قوله عن ظهر قلب.

إقرأ أيضا: أحد مشاهير العرب أعجبته بنت عمه فخطبها

نظرت إليه غير مصدقة الحال التي آل إليها ، شعرت بغصة في حلقها ، لم تقوى على الحديث ،

فجأة إنفجرت في البكاء بقوة ، أفاق من سكره للحظات ، لم يصدق عينيه وهو يراها تبكي بحرقة ،

بعدما جلست على الأريكة المتواجدة بالقرب منها.

لم تدم دهشته طويلا ، إستدار بخطوات غير متزنة متوجها لغرفته ، وبينما كان يغلق بابها خلفه ،

سمع صوت إبنته تواسي والدتها في محاولة منها لتهدئتها.

ألقى بجسده الذي يشعر بثقله على الفراش ، لا يمتلك القوة لنزع حذائه أو تبديل ملابسه ، وغط في نوم عميق.

إستيقظ في السادسة مساءا كعادته يوميا منذ عامان ، يشعر بصداع قوي يكاد أن يجعل رأسه ينفجر.

نهض بصعوبة ، نزع عنه الملابس التي كان يرتديها بالأمس ، خرج من حجرته مرتديا ملابسه الداخلية ، متوجها صوب المرحاض ،

توقع أن يراها جالسة كعادتها على الأريكة المتواجدة بالصالة ، تلقي على أذنيه عبارات التوبيخ كما اعتاد دوما.

تعجب من عدم وجودها ، شعر بالسعادة على الأقل سوف يبدأ يومه بدون سماع حديثها السخيف الذي يحفظه عن ظهر قلب.

خاطب نفسه بأنها لابد أن تكون جالسة بحجرة إبنتهما التي أصبحت تشاركها إياها ،

بعدما قررت عدم النوم بجواره على نفس الفراش منذ زمن.

بعدما إنتهى ، خرج ينادي عليها لتقوم بإعداد القهوة والطعام كما جرت العادة.

فالبرغم من شجارهما المتكرر إلا أنها مازالت تحافظ على القدر الأدنى بينهما كزوجين.

إذ تعد له الطعام ، وتقوم بغسل ملابسه ، تحافظ على بيتها مرتبا ، يعلم أنها زوجة مثالية في تلك الجزئية ،

لكنه يكره صوتها العالي والمشكلات التي تقوم بافتعالها بدون أسباب مقنعة.

ليس أول ولا أخر من يشربون الخمر ، هناك طبقة كاملة من المجتمع تتناوله كل ليلة ، بل إنهم يسخرون من الذي لا يشرب.

أما بالنسبة للقمار الذي تتهمه بأنه بدد أمواله فيه ، يدرك جيدا أن الذي يضع يده في الماء ليس كمن يضعها في النار.

إقرأ أيضا: دخل الجراح سعيد إلى المستشفى بعد أن تم إستدعائه

هي لا تعلم شيئا عن اللذة التي يشعر بها عندما يربح أحد الأدوار ، شعور لا يمكن وصفه ،

ولا يستطيع أن يتصوره إلا من أقدم على التجربة بنفسه.

فمهما تحدث فاقد البصر عن ما يعانيه ، لا يمكن للمبصرين أن يتخيلوا حجم معاناته.

ثم إنه لا يرى أن الأمر يستحق كل ذلك ، هو يحب أن يقوم بذلك وكفى ، هكذا تؤخذ الأمور ببساطة.

دائما ما كان يتحدث إليها ضاربا لها مثال بكرة القدم ،

كرة من الجلد ممتلئة بالهواء يركض خلفها مجموعة من البلهاء مدعين إنهم يمارسون رياضة.

تقوم الأندية بشراء لاعبين بملايين الدولارات من أجل الحصول على كأس ،

ومكافأة مالية أقل بكثير من ما يتقاضاه لاعب واحد في الشهر.

كذلك من يقوموا بالتشجيع ، يسافرون من دوله لأخرى ، قاطعين الألاف من الأميال ،

للجلوس في ستاد لساعة ونصف ، يعودوا بعدها لبلادهم شاعرين بالسعادة ، هو أيضا يشعر بسعادة عندما يمارس اللعب.

تعجب من عدم ردها ، توجه لحجرة إبنته ، طرق الباب عدة مرات لم يتلقى إجابه ،

قام بفتح الباب ، تفاجأ من عدم وجود أحد بالداخل.

لفت إنتباهه خزانة الثياب المفتوحة على مصرعيها ، الخالية من الثياب ، شعر لوهلة بأنه يحلم ،

هل يمكن أن يكون ما دار بخلده حقيقة؟

لقد غادرت زوجته وأبناءه المنزل ، توجه لحجرة إبنه ، كان حالها كحال الغرفة السابقة ،

أيقن أن شكوكه تحولت لأمر واقع ، لقد تركوه بمفرده.

توجه مسرعا نحو غرفته ليحضر هاتفه ليحاول الإتصال بهم ،

توقف أمام الباب بعدما تذكر أنه قام ببيعه بالأمس لحاجته للمال لمواصلة اللعب.

تحولت دهشته لغضب شديد ، أخذ يكيل السباب لهم بصوت مرتفع ، أمسك بكوب زجاجي موضوع على طاولة الطعام ،

قام بإلقاءه غاضبا نحو الصورة التي تجمعه بزوجته في حفل زفافهما ليتهشما الإثنان ويساقطا أرضا.

إقرأ أيضا: ممكن أحضنك؟

جلس على الأريكة ، لا يدري كيف انسابت الدموع من عينيه !

أخذ ينعت زوجته بالحمقاء ، لا تدري أنه يفعل كل ذلك من أجلها هي وأبنائها ،

يتمنى لو أنه إستطاع الفوز بمبلغ كبير ، كالأشخاص الذين يراهم يفعلوا ذلك كل ليلة ،

بعدها سوف يتوقف عن اللعب تماما ، ولكن حظه العاثر لا يقف بجواره للنهاية.

دوما عندما يبدأ في اللعب يحصل على بعض المكاسب المرضية ،

التي تدفعه لأن يزيد من قيمة مراهناته للحصول على مبلغ أكبر من المال ، لكنه في نهاية الجلسة يعود لبيته بخفي حنين.

كل مرة يخاطب نفسه بأن يكتفي بالمكسب البسيط ويتوقف عن اللعب ، لكنه لا يدري ماذا يحدث له!

كل مرة يظن أنها الليلة المرتقبة التي ينتظرها ، ربما هذا ما يدفعه لمواصلة اللعب للحصول على أكبر مكسب ممكن.

نهض متوجها لحجرته ، قام بتبديل ثيابه ، توجه صوب الكازينو ،

وجد رفاقه ملتفين حول المنضدة كعادتهم كل ليلة ، ألقى عليهم التحية وجلس بالقرب منهم ، يحتسي الشراب الذي أحضره له النادل.

إقترب منه مدير الكازينو ، ألقى عليه التحية وهو يخاطبه قائلا :

ألن تلعب الليلة ؟
لا أمتلك مال.

لا عليك يا رجل ، سوف أقرضك.
لكنني لم أسدد ديوني السابقة.

أخرج مدير الكازينو دفتر شيكات من جيب بذلته الداخلي ، وضعه أمامه على الطاولة.

بلا تردد أخرج القلم ، قام بالتوقيع على الشيك الذي لم يحدد به المبلغ ، كأنه اعتاد على الأمر.

أشار مدير الكازينو لأحد مساعديه ، الذي أتى حاملا مبلغ مالي كبير ، قام بوضعه أمامهما على الطاوله وانصرف مسرعا.

تناول المبلغ ونهض مسرعا ليجلس على طاولة اللعب.

إقرأ أيضا: قالت إحداهن كان طموحي الوحيد هو إرضاء زوجي

بدأ بمبلغ صغير كما اعتاد دائما ، كان الحظ حليفه في البداية ، ضاعف المبلغ السابق وبدأ يلعب مجددا.

عجبا ! للمرة الثانية يفوز ، جمع الأموال أمامه وهو يشعر بنشوة الفوز ، وبدت على شفتيه إبتسامة زهو.

إستمر فى اللعب لثلاث ساعات متواصلة ، لم يخسر خلالهما مطلقا ،

قرر الجالسين أن ينهضوا بسبب سوء الحظ الذي يلازمهم تلك الليلة ، ليتفاجأ بأنه ربح مبلغ ضخم لم يكن يحلم به.

إقترب منه مدير الكازينو مطالبا إياه بسداد المبالغ التي أقرضه إياها.

بعدما قام بتسديد ديونه ، وجد أنه مازال بحوزته الكثير من المال ، أطلق ضحكة عالية تردد صداها في أرجاء المكان ،

جعلت المتواجدين ينظرون إليه بدهشة.

حدث نفسه بأن الليلة التي تمناها طويلا ، جاءت أخيرا بعد طول إنتظار.

سوف يبحث عن أبناءه وزوجته ، ليخبر تلك الأخيرة بأنه لن يعود للعب مجددا ، بعدما ربح ذلك المبلغ الضخم ،

أشار لأحد العاملين بالكازينو طالبا منه إحضار حقيبة ، ليضع بداخلها النقود.

أخذ يضع المال بداخل الحقيبة وهو يشعر بسعادة لم يشعر بها من قبل.

هم بالنهوض ، شعر بقلبه يخفق بشدة ، بدأت قطرات العرق تغزو جبينه ، ألم قوي يغزو صدره ،

وضع يده على موضع الألم الذي كان يزداد بشدة ، شعر بدوار حاد ، بدأت الرؤيا تبدو ضبابية أمام عينيه ،

لم تعد قدماه تقوى على حمله ، سقط أرضا.

هرع الحاضرين نحوه ، محاولين مساعدته ، تحدث أحد المتواجدين ليعرف نفسه بأنه طبيب ويخبر الملتفين حوله بالإبتعاد ، ليتمكن من مساعدته.

إنحنى ليضع رأسه على صدره ليستمع لنبضاته ، بعد أقل من دقيقة اعتدل وهو يتحدث قائلا :

لقد فارق الحياة يبدو أنه تعرض لأزمة قلبية حادة.

Exit mobile version