بائعة الحلوى
أسرعت الخطى نحو موقف الحافلات ، على أمل اللحاق بأخر واحدة ، والتي علمت أنها تنطلق في العاشرة مساءا.
فهذا أول يوم في عملي الجديد ، الذي حصلت عليه بالكاد بعد معاناة طالت لأكثر من ثلاثة أشهر ،
نفذت مدخراتي البسيطة خلال الشهر الأول منهم ، مما جعلني أقترض الكثير من المال
لأدبر ما تحتاجه أسرتي الصغيرة ،
المكونة من زوحتي وابنتي ذات العشرة أعوام.
تمكنت من اللحاق بها وهي على وشك التحرك ، ألقيت بجسدي المنهك على أول مقعد واجهني ، شاعرا بسعادة بالغة ،
فما أملكه من المال يكفي بالكاد لدفع ثمن التذكرة ،
وما سيتبقى سأقوم بشراء الخبز به لعمل الشطائر التي ستأخذها ابنتي في الصباح عند ذهابها للمدرسة.
أخرجت هاتفي المتواضع الذي قمت بشراءه عوضا عن الهاتف الذكي ، اضطررت لبيعه بسبب ضغوط الحياة.
قمت بالإتصال على أحد الأصدقاء الذي كنت قد تحدثت إليه في الصباح ،
طالبا منه مبلغ من المال لحين الحصول على راتبي بداية الشهر ، لم يجب على اتصالاتي المتكررة.
انتابتني الحيرة الشديدة ، ماذا سأفعل ؟
فأنا لا أملك سوى بضع جنيهات لشراء الخبز ، وسينفذ بعدها كل ما أملك ولن يكون لدي أي نقود تمكنني من الذهاب للعمل في الصباح.
شعرت بغصة شديدة في حلقي ، وكأنني موشك على الإختناق ، أعدت الإتصال مرة أخرى على صديقي ، لكنه لم يرد.
أعدت الهاتف لجيبي ، جلست شارد الذهن ، أنظر بعيون زائغة للشارع محاولا إيجاد مخرجا لما أنا فيه.
أفقت من شرودي على شيء يوضع على المقعد الخالي جواري ، أدرت عيني ،
فوجدت فتاة من هؤلاء الباعة الجائلين الذين اعتادوا على بيع بضاعتهم بتلك الطريقة ،
لم أعير الأمر اهتمام ، فذلك أمر معتاد كثيرا ما يحدث.
عدت أنظر للشارع مرة أخرى ، بعدما أرهقني التفكير كثيرا ،
عادت الفتاة لالتقاط قطعة الحلوى المغلفة التي وضعتها بجواري قبل قليل.
إقرأ أيضا: الحب الإلكتروني الجزء الأول
أخذت أتابعها وهي تلتقط باقي القطع من بقية الركاب ، الذين لم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة ،
وقد جلسوا على مقاعد متفرقة بداخل الحافلة بسبب خلوها في ذلك الوقت المتأخر.
بعدما انتهت ، قامت بوضع الحلوى في تلك العلبة التي تحملها على يدها اليسرى المصنوعة من الورق المقوى ،
وجلست على أحد المقاعد بالقرب مني.
أخذت أدقق النظر إليها ، تبدو في الثانية عشر على أكثر تقدير ، ذات بشرة بيضاء ، وعينان سوداء ،
وشعر أسود قصير بعض الشيء يصل لمؤخرة عنقها ، فعلت به الأتربة أفاعيلها ، ترتدي قميص فضفاض أزرق اللون ،
وبنطال أحمر متسخ بشدة ، فيما يبدو أنه أكبر من قياسها لأنها قامت بثنيه من الأسفل حتى لا يعيق حركتها ،
تنتعل حذاء رياضي أبيض اللون مهترئ بشدة ، كان مظهرها يوحي بمعاناتها الشديدة التي تعيشها.
لاحظت أنني أنظر إليها ، تلاقت عيوننا للحظات ، فابتسمت بلطف ، كاشفة على أسنان ناصعة البياض ،
كانت ابتسامتها مزيجا من البراءة التي اختلطت بالشقاء ، بها سحر عجيب يجعلها تتسلل لأغوار القلب بسرعة البرق.
نهضت متجه نحوي ، وبدون أن نتبادل كلمة واحدة جلست بجواري ، وضعت العلبة الممتلئة بالحلوى على قدميها ،
وهي تنظر لي مجددا وتلك الإبتسامة الساحرة مازالت مرتسمة على شفتيها.
التقطت قطعة من الحلوى من داخل العلبة ، مدت يدها بها إلي ، في البداية ظننتها تريد أن تهدينى إياها ،
شكرتها بلطف وأنا أحاول التظاهر بالإبتسام برغم كل الضغوط التي أشعر بها في داخلي.
لكنها لم تتراجع.
خاطبتني بلهجة تحمل الكثير من الحزن والإنكسار قائلة :
أرجوك أن تشتريها ، فمنذ الصباح لم أتمكن من بيع قطعة واحدة.
شعرت بصدق حديثها ، خاصة عندما رأيتها تقاوم الدموع التي تحجرت في عينيها وكانت على وشك السقوط ،
استنتجت من حديثها أنها تعمل منذ الصباح ، إنها قد تركت التعليم ، أو أنها لم تلتحق به من الأساس.
سألتها عن الثمن ، أخبرتني عنه ، كان بالضبط نفس ما تبقى معي لشراء الخبز لابنتي.
إقرأ أيضا: لا تتخلي عن طموحك لأجل أحد
تبا لقد وضعت في أصعب اختبار يمكن أن يمر به المرء ، إذا قمت بشراء قطعة الحلوى تلك ،
فلن تتمكن طفلتي من تناول وجبتها في الصباح وبالطبع إذا أعطيتها قطعة الحلوى فلن تسد جوعها.
حاولت الخروج من ذلك المأزق بلطف حتى لا أخسر كبريائي أمامها وكي لا أقوم بكسر خاطرها ، فخاطبتها مداعبا :
وهل طعم تلك الحلوى جيد أم لا؟
في الحقيقة لا أدري فأنا لم أتذوقها من قبل.
تعجبت من صدقها معي ، فقد كان يمكنها أن تخبرني بأنها جيدة ،
وأصبت بصدمة شديدة من عدم تذوقها إياها ، بالرغم من بيعها لها.
عدت أسألها مجددا عن سبب عدم تناولها من قبل ، أخبرتني أن ما تتحصل عليه من مكسب في العلبة كلها هو نفس ثمن القطعة الواحدة ،
لذا لا تريد أن تضحي بتعب يوم كامل من أجل أن تستمتع دقيقة بطعم الحلوى اللذيذ ، مع أنها تتمنى لو تتذوقها لمرة واحدة.
شعرت بالألم يعتصر قلبي ، لوهلة خيل إلي أن ابنتي هي من تتحدث ، أخرجت الجنيهات القليلة المتبقية معي بلا تفكير ،
أعطيتهم لها ، وأخذت قطعة الحلوى التي مازالت يدها ممتدة بها ، شكرتني كثيرا وهمت بالنهوض لتنصرف.
أمسكت بيدها ، نظرت إلي وعينيها تتسائل عن ما أريد ، أعطيتها قطعة الحلوى وأنا أطلب منها أن تتقبل مني تلك الهدية البسيطة ،
في البداية شكرتني بلطف ، لكن أمام اصراري وافقت في النهاية ، تناولتها بخجل وتلك الإبتسامة الساحرة لم تفارق وجهها.
عادت لتجلس على المقعد الذي كانت عليه قبل أن تأتي إلى جانبي ، وضعت علبة الحلوى بجوارها ،
وأمسكت بالقطعة التي قمت باهدائها إليها ، قامت بفتحها وبدأت في أكلها.
بعدما تناولت أول قضمة ، رأيتها تغلق عينيها للحظة مستمتعة بطعم الحلوى التي تتذوقها للمرة الأولى ،
وكأنها تعيش حلم جميل بعيدا عن الواقع التعيس الذي تحيا به.
داعبت رأسي فكرة أن أسوا ما يمكن أن يمر على الإنسان أن تكون أحلامه أمامه وهو غير قادر على أن يمد يده إليها ،
فتلك الطفلة تبيع ما تشتيه وهي غير قادرة على الإستمتاع به.
إقرأ أيضا: يا إلهي لم أتعرف عليكِ في البداية
فتحت عينيها وهي تنظر إلي ، عندما رأتني أبادلها النظرات ابتسمت بخجل وهي تحول عينيها بعيدا.
اقتربت وجهتي ، توجهت لباب الحافلة التي توقفت ، فترجلت منها وسرت بضعة خطوات مبتعدا ، بينما عادت الحافلة لتكمل سيرها.
نظرت نحوها ، فرأيتها تنظر إلي من النافذة وتلوح إلي بيدها ، قامت بطبع قبلة على يديها وأرسلتها لى في الهواء ،
بادلتها نفس الفعل وأنا أبتسم من قلبي ، فطوال ثلاثة أشهر مضت لم أشعر براحة كالتي شعرت بها في تلك الدقائق القليلة الماضية.
سرت في الشارع المؤدي لبيتي وقد قررت أن تتغيب ابنتي عن المدرسة في الغد ، لعدم تمكني من شراء الخبز لها ،
ولكن بقي أمامي مشكلة أخرى ، كيف سأتمكن من الذهاب لعملي في الغد وأنا لا أملك أي نقود ؟
سرت شارد الذهن نحو البيت ، مررت أثناء سيري بالمخبز ، رائحة الخبز الطازج تنتشر في أرجاء المكان ،
وقفت أنظر لذلك العامل الذي يقوم بوضعه في المكان المخصص به استعدادا لبيعه.
أخذت أراجع نفسي ، هل ما قمت بفعله مع تلك الفتاة في الحافلة أمر صحيح ، أم كان لابد من التريث بعض الوقت؟
جاءت الإجابة سريعة ، بأنه لو تكرر ماحدث فلن أتردد في فعله مجددا.
هممت بالإنصراف ، وما إن بدأت في أخذ أول خطواتي حتى فوجئت بيد توضع على كتفي مع صوت مألوف لمسامعي يخاطبني ضاحكا:
ماذا تفعل هنا ؟
أستدرت وأنا غير مصدق عيني ، إنه الصديق الذي كنت أتصل عليه ولم يرد على أتصالاتي ، هممت بمعاتبته.
لكنه بادرني قائلا : المعذرة ياصديقى لقد غادرت المنزل ونسيت الهاتف هناك ،
لقد كنت عائدا الأن لأتصل بك حسب موعدنا ولكن من حسن الحظ أن أقابلك هنا.
قالها وهو يضع يده فى جيبه ليخرج المبلغ الذي كنت قد طلبت اقتراضه منه ، شعرت بفرحة كبيرة ،
تناولت المبلغ وأنا أشكره كثيرا ، وبعدما انصرف ، توجهت مسرعا نحو المخبز ، بينما ابتسامة بائعة الحلوى لا تفارق خيالي.