بشير ونوسة العروسة الجزء الثاني
عاش بشير لعدة سنوات وكأنه في جنّة الله على أرضه حتى بدأ يزحف على حياته الملل آفة البشر ،
فطلب أن يخرج عله يجد في صحبة الناس بعض التغيير الذي يحتاج إليه.
فحاولت إمرأته نوسة أن تثنيه عن رغبته ، فلم تفلح فذكّرته بوعده لأبيها بألاّ يتدخل فيما لا يعنيه ،
فطمأنها وخرج تملأه رغبة في مخالطة الناس والإستئناس بهم.
فأخذ يلقي التحية يمينا ويسارا ، ورغم طيبة القوم وبشاشتهم إلا أنه لم يجد من يتكلّم معه ،
فالكل منهمك في عمله ، فواصل السير حتى وجد عجوزا قصير القامة يلتحف بالبياض يتسلق شجرة عظيمة ،
تعجب لحيويّة الرّجل وسرعته واستغرب لما يفعله ، فقد كان العجوز يقطف الورقة الخضراء من الشجرة يتأملها ويأكلها ،
ثم ينزل إلى الأرض ، ويلتقط واحدة جافة صفراء ويأكلها أيضا.
وقف بشير ينظر إليه يصعد حينا إلى الشجرة وحينا آخر ينزل حتى أشفق عليه التعب ، فبادره بالسّلام ،
ونصحه أن يقطع فرعا من الشّجرة ، ويأكل الأوراق الخضراء ويترك الذابلة ، فقطّب الشّيخ جبينه ، وأمره أن ينصرف.
وحينما رجع إلى بيته وجد زوجته حزينة ، وأخبرته أنّه قد طلقها ، فأقسم أنّه لم ينطق بالطلاق ،
وكان لابد أن يذهب إلى أبيها ، وهناك أخبره أنّه أخل بشرط الزواج ، وعليه أن يردّ اليمين ، ويتبقّى له طلقتان فقط.
فاستسلم بشير ، وردّ اليمين الذي لم يصدر عنه ،
وواصل حياته مع إمراته لا يعكر صفوها شيء حتى انتابه الشّوق مرّة ثانية لمخالطة النّاس ، وخرج رغم تحذيرها ،
وحاول أن لا يتدخل في شئون غيره ، وتجوّل في المدينة الجميلة حتى قابل رجلا يقف على بئر عميق ،
يمسك في يده دلوا صغيرا فيملؤه مرة لنصفه ومرة أخرى لحافته ، ومرة ثالثة يخرجه فارغا ،
إقرأ أيضا: بشير ونوسة العروسة الجزء الأخير
وفي كل مرة يفرغ ما يملأه في بئر آخر بجانبه فلم يستطع أن يتمالك نفسه عن النصيحة ،
ووقف يشرح للرجل كيف أنّه لو أوصل بين البئرين قناة صغيرة لأجرى الماء بينهما واستراح من التعب ،
لكن الرّجل إستنكر كلامه ولامه على التّدخل في أمر لا يعنيه.
رجع بشير إلى البيت ، وثارت نوسة في وجهه ، وقالت : لقد أصبح الطلاق عندك لهوا ، وغادرها ثانية إلى والدها ،
وأرجع اليمين الثاني ، وحذّره الوالد فلم يبق الإ يمين واحد إذا أوقعته فهو الفراق.
تشائم بشير من كلام أبيها ، لكنه كان حريصا على البقاء مع نوسة لأنّه يحبّها ويعشقها ، وتسير الحياة بهما هانئة ،
وحرصت الجارية أن تلهيه عن أهل المدينة ، وينسى لفترة طويلة حتى قرّر أن يخرج للمرّة الثالثة ،
حاولت منعه ، وقالت له : ستندم ، لكن أجابها : لقد فهمت الدرس ولن أتكلم مهما حصل.
عانقته وقبّلته ، وقلبها يخبرها أنه لن يعود ، تردّد بشير في الذهاب ، لكن رغبته في الخروج كانت أقوى من كلّ شيء ،
وسار في أنحاء المدينة يستمتع بكل ما فيها وفي كل مرة يحاول أن يتكلم كان يتذكر الشّرط المحرّم ،
حتى أخذته قدماه ناحية البحر ، ولم يكن يعرف أنّ بالمدينة بحرا.
فوجد على شاطئه سفينة ضخمة وجمعا غفيرا من النّاس يصطفّون على جانبيها كلّ منهم يشدّ السفينة ناحيته ،
ويحاول بكلّ قوته وكلّ رغبته ، والسفينة راسخة على الشاطئ لا تتزحزح لأحد.
كاد أن يمشي دون أن يعلّق على تصرفاتهم الغريبة ، لكنّه لم يستطع ،
ونسي وعده لنوسة بالعودة إليها دون أن يحشر نفسه في مشاكل الناس.
يتبع ..