تقول حملت معطف والدي فلمحت ثقبا كبيرا في جيبه ، اندهشت لمنظره ، فسارعت نحو أمي حتى تخيطه له ،
أكيد أنه يشعر بالبرد بسبب هذا الثقب وأمي لم تنتبه له.
قد تضيع منه نقوده التي تعب من أجلها طيلة شهر كامل بسببه ، لكن ردة فعلها كانت غريبة ،
فبدل أن تأخذه عني لتخيطه قالت دعيه على حاله هو يحبه هكذا!
كيف يحب والدي معطفه بجيبه المثقوب! هذا غير معقول ، لعلها تشاجرت معه فأبت خياطته له ،
فارتأيت أخذه لجدتي والدته ، هي أمه وأكيد انها ستخيطه له ، لكن الذي حصل عكس ذلك ،
فقد قالت نفس الجملة التي قالتها لي أمي ، دعيه على حاله فهو يحبه هكذا!
لعل أعراض الزهايمر باشرت الظهور عليها ، فلا يعقل لأم أن تترك جيب معطف ابنها مثقوبا ولا تقوم بإصلاحه ،
لا يمكن ذلك ، فالأمهات وحدهن من يتقن إصلاح كل شيء لأبنائهم!
غادرت غرفتها فاصطدمت بأختي الكبرى ، هي ابنته وستلبي له ذلك سريعا ، هي بسن مناسب يسمح لها بخياطته كما يجب ،
أنا أصغر منها سنا وأقل خبرة ، وأخشى أن لا أتقن ذلك ، لكن هي الأخرى تجاهلت ذلك وانصرفت.
عندها احتضنت المعطف والدموع تملأ عيني ، مسحتها وكلي عزم على خياطته بنفسي مهما كان الثمن ،
وقبل ذلك سمعت صوت أمي وهي تنادي علي ، فنهضت من مكاني في دهشة ، معقول! كل هذا كان حلما؟
ومع أنه كان مجرد حلم عابر ، إلا أن الفضول والقلق قاداني لغرفة والدي سريعا بحثا عن معطفه لأتيقن من جيوبه ،
بحثت سريعا ولم أجده ، فناديت على أمي “أمي ، أين معطف أبي؟”
وقبل أن تجيبني ، سبقها وهو يهم بدخول المنزل عائدا من الخارج وفي يده الكثير من الأكياس التي تحوي مقتنيات لنا وللمنزل كما يفعل دوما.
هو هنا ، أنا أرتديه ، لقد كنت في السوق ، اليوم هو الجمعة!
إقرأ أيضا: الساعة الثالثة فجرا وحيدة في غرفتي
لقد كان يوم عطلته ، وكان الصباح باردا ، الوقت مبكرا ، حينها فهمت معنى جيبه المثقوب الذي يحبه كما هو ،
فجيب أبي يعود خاليا دوما من الخارج بعد اقتنائه كل ما يلزمنا بنقوده ،
ورغم كل ما يعانيه أثناء ذلك يظل سعيدا بكل ما يجلبه لنا غير آبه بنفاذها.
آلمني هذا جدا ، فقدت وجدت نفسي أيضا عاجزة عن إصلاحه له ، فاكتفيت بالإبتسام له حتى يزول عنه تعبه ،
كتعبير بسيط عن امتناني له ، لكن الذي آلمني أكثر هو حين باشر التفتيش في جيوب معطفه الذي سمعني أبحث عنه ،
ظل يبحث عن قطع نقدية حتى يعطيني إياها ، وتحسر جدا لأنه أنفقها كلها ولم يجد ما يقدم لي منها ،
لقد ظن أني أبحث عنه حتى آخذ منه نقودا ، هكذا هو أبي دوما ، لا يجيد إعطاء الحضن ،
لا يتقن توزيع كلمات الثناء كما تفعل والدتي ، ولا يعرف كيف يقول لنا أنا أحبكم.
فيمنحنا نقودا كلما سألنا عنه وبحثنا حتى نشتري ما نحتاجه ونسعد ، وبهذا يكون قد عبر لنا عن حبه واهتمامه!
كلا ، لا أسال عنك يا أبي من أجل النقود ، إنه يوم عطلتك ولم أجدك في غرفتك ، لهذا بحثت عنك ،
ظننتك لم ترتدي معطفك في هذا اليوم البارد.
رسمت ابتسامة طفيفة على وجهه سعادة بما قلت ، وحتى يسعدني أكثر ، أخرج حبات العنب الذي أحبه من الكيس ،
وقال لي : لقد جلبت لك العنب الذي تحبينه ، سمعتك تقولين ذلك لأمك.
لقد كان ذلك منذ فترة حين كانت أسعار العنب مرتفعة فوق قدرته ، وما أن انخفضت سارع باقتنائه لي ،
فعلا لقد أصاب الجميع وأخطأت أنا ، فأبي يحب جيبه كما هو بثقوبه الكثيرة ،
ولا يسعد إلا إذا ظلت على حالها فيه ، وإن حاولنا إصلاحها سيشعر أن وجوده لم يعد يعنينا ، وأننا لم نعد بحاجة له ولحبه ،
وحتى لا يشعر بذلك ، ارتأيت التعبير عن امتناني وشكري فرحا بما جلبه ، حاملة كل الأكياس عنه ،
آخذة ذلك المعطف منه ، فلم يعد بحاجته ، فحرارة استقبالنا كانت كافية جدا لتدفئته.