حذاري من اليأس
حذاري من اليأس
توفيت زوجتي قبل خمس سنوات ، وقبل أن تتوفى كان قلبي ميت معها ، لم أجد الحب الذي يتكلمون عنه طيلة الأربعة وثلاثون عاما.
كان مجرد زواج تقليدي مبني على الود والإحترام وقضاء حاجة كل منا لرغباته ،
واكتملت باولادنا الذين أخذوا منا كل إهتمام يطلب لكلينا.
مع الوقت كبرت الفجوة والفراغ العاطفي الذي لم يعد يطلب كما في الأول ،
ولم يعد ما بيننا سوى إحترام العشرة الطويلة فقط.
كبرنا وكل واحد أصبح غريب عن الأخر ، حينها تزوج أولادي وذهب كل منهم لبناء مستقبله بمفرده ، وكأننا مجرد سلم يعبرون عليه.
وانتهت مهمتنا لهذا الحد ، ليعلنوا بدلا عنا خلاص مسؤوليتنا نحوهم.
بعدها مرضت زوجتي وتمكن منها المرض لينهي حياتها الشاقة ،
ليأخذها إلى العالم الأخر ، ربما تجد الراحة فيه أكثر من هذه الحياة البائسة.
أصبحت وحيدا رغم أني لي عائلة وأحفاد ، كنت أطوف عليهم بالواحد أشحت منهم الحب والإهتمام.
ولكن كل مساء أعود لمنزلي خائب الرجاء.
أنام مكبوت الأحاسيس ، الأرق والحزن يجتاحني كل ليلة.
أنتظر بفارغ الصبر ضوء النهار ، حتى أخرج من ظلمة الوحدة إلى الشارع كي أجتمع بأصدقائي.
في المسجد أحيانا ، وفي المقاهي عدة مرات ، ومع ذلك يعود الجميع إلى منزله ، وأبقى أنا الوحيد الذي يمسك بفنجانه يرتشف فراغها ،
متظاهرا أنه مازال به القهوة.
أسأل نفسي نفس السؤال المتكرر الذي يجول في ذهني ، إلى متى سيدوم حالي مثل هذا الحال؟
إقرأ أيضا: توفي والدي وأنا بنت الخامسة
وفي أحد الأيام وأنا مار من إحدى الشوارع أقوم فيها بزيارة أحد الأقارب ،
وإذ بي أسمع صراخ فتاة ما ومجموعة من الناس يظهر أنها ملتفة من حولها.
خمنت أنها بلبلة الفتيات المعتادة إثر معاكسة لأحد الشباب.
فأردت أن أمر مرور الكرام دون أن أتدخل في شؤون لا تعنيني.
وإذ بمنظر إستفزني بعد أن رمى بصري بالصدفة خرق بها تلك الجموع ،
لأرى شاب يحطم طاولة ويرمي بأغراضها هنا وهناك.
وهو يشتم تلك الفتاة التي تنوح وتبكي وهي تدعوا عليه أن يكسر يدي الشاب إثر ما فعل بها.
والمشكلة أن لا أحد من الحاضرين تدخل واستنكر فعلة الشاب الشنيعة.
هنا لم أستطع أن أتمالك نفسي ، وذهبت لأمسك بذراع الفتى وأزيحه للخلف بعيدا عن تلك الفتاة ،
الذي كاد أن يتمادى ويضربها المسكينة.
حينها وبخته بأن القوة ليس من شيم الرجال كي يطبقها على النساء.
وإن كان هناك مشكلة فستحل بالعقل.
وبعد محاولات الشاب باستعماله العنف ، إلا أنه مع الاخير إستكان وامتثل للحلول التي منحتها له ، والقضية كانت بسيطة جدا.
فالفتاة أخذت مكان الشاب أين يضع مصطبته ويبيع عليها بعضا من الخردوات المنزلية.
فنصحتهما أن يتقاسما المكان بما أنه واسع ، فلا ضرر في ذلك.
وكل واحد له قسمته ورزقه الخاص الموزعة عليهما بعناية من صاحب الأرزاق.
كما هدأت من غضب الشاب بأن يتقبل الفتاة ويعتبرها كأخته ، فلو كانت ليست محتاجة ،
لما إضطرت أن تكون على رصيف الشوارع بدل أن تكون أميرة في بيتها.
وقبل أن أمضي لحال سبيلي بعد أن حلت المشكلة إذ بتلك الفتاة تناديني بالحاج من خلفي.
إقرأ أيضا: مع أن زواجي كان زواجا تقليديا
وعندما إستدرت إليها شكرتني كثيرا وأهدتني ساعة عتيقة من مبيعاتها مستديرة الشكل ملتصقة بها سلسلة حديدية ،
وعرفتني كيف توضع داخل جيب المعطف دون أن تسقط.
كانت الساعة عربونا على مساعدتي إياها.
في تلك الأثناء كنت غير منتبه لتلك الساعة قدر ما كان إنتباهي على ذلك الوجه الجميل المبتسم ،
وملامحها الشرقية التي رسمت بدقة من الذي أبدع وصور في خلقه.
بعدها شكرتها بدوري وعدت أدراجي إلى منزلي متناسيا أين كانت وجهتي من قبل.
في تلك الليلة لم تفارقني صورة تلك الفتاة الغريبة وابتسامتها التي تبهج أي صدر مهموم.
فاستغربت من حالي كما خجلت من نفسي ، كيف أفكر في فتاة تصغرني بسنين وهي لا تتعدى الثلاثين من العمر.
ورغم ذلك لم أمنع نفسي أن أذهب إلى ذاك الشارع ، وأتظاهر أنني مار أمام تلك الفتاة ، هل ستتذكرني ، أم ستحبط مناي؟
ولكن الغريب ، أن الفتاة مجرد أن لمحتني من بعيد تركت مصطبتها دون حراسة ، وقدمت نحوي راكضة ،
فسلمت علي بحرارة وكأني قريب عاد للتو من سفره ، وكم سررت بذاك الإهتمام المفاجئ بالنسبة لي.
وبعد ذلك كثرت لقاءاتنا ، وتنوعت أحاديثنا ، وتغمقت مشاعرنا ، ولم يعد لي طاقة البعد عنها.
فتعلقي بها أعلم من أين أتى؟ الفراغ والوحدة ، والبحث عن الشريك ، من أهم أسبابه.
فروح الانسان لا تشيخ ، ستبقى متعطشة لاحتياج سقيها الحب والاهتمام حتى ولو هو طاعن بالسن.
وبدون مقدمات طلبت منها الزواج ، ولم أستغرب قبولها بالعرض ، لأنها هي كذلك تحتاج لشخص يحتويها وتأمنه على نفسها.
فوجدت في ، الأب الذي فقدته في صغرها ، والأخ الذي سافر وترك أخواته بمفردهن دون عويل ،
والصديق الذي إنعدم وجوده بحياتها.
فتعددت الأسباب والسبب واحد هو حضور الراحة والإطمئنان والأمان لكلينا.
تزوجت بالأخير فتاة أحلام الصغر رغم رفض أولادي بشدة ، خوفا من أخذها منهم ورثهم الذي ينتظرونه بلهفة.
فأعادتني بأسلوبها الشقي وعاطفتها الحنونة إلى شبابي الذي مر كالطيف ولم أنعم بتلك المشاعر الصادقة النبيلة التي منحتها كلها لها وأنا في كبري.