حكاية الدلال يخلّف الهبال الجزء الأول
يحكى أن تاجرا كبيرا لم يرزقه الله إلا بولد واحد إسمه حسن ، وفرح به ، ومن شدة حبه ودلاله كان دائما يقول له :
لا تأكل سوى العسل ، ولا تلبس سوى الحرير ، وإذا تزوجت إمرأة فكتفها بالحبال إن لم تطعك!
مضى الزمن ، ومات ذلك التاجر ، وترك لإبنه من الدّكاكين والذهب ما يكفيه العمر كله ،
لكنّ حسن لصغر سنه ، وطيشه نفّذ ما قال له أبوه ، وصار يعيش أحسن حياة ، ولا ينام إلا على الحرير وريش النّعام ،
وكل مرة يتزوج إمرأة ، ويسمع كلمة لا تعجبه ، يكتفها ، وينزل فيها ضربا بغصن زيتون ، حتى تهرب المسكينة عند أهلها ،
وهي تتشفّع منه ، ثمّ تطلب الطلاق ، وكان لا يرحم شيخا ولا فقيرا ، وكلّ همّه الأكل والشرب والراحة ، حتى كرهه الناس.
وذات يوم مرت عليه أرملة ومعها إبنها الصغير ، وكان جالسا في دكانه المليء بالخيرات من جوز ولوز وحلوى ،
فمد الصبي يده ، وأخذ لوزة ، فافتكّها منه وأرجعها إلى الكيس ، فوقفت المرأة ، ودعت عليه بأن يفقر ،
فضحك وقال : أنا أغنى تاجر في هذا البلد ، وستموتين دون أن تفرحين بذلك!
قالت : ويلك من عقاب الله يأتيك من حيث لا تعلم!
لكنّه طلب منها أن تنصرف قبل أن يرسل لها عبيده لتأديبها ، فانصرفت وهي تبكي ،
لكن كل دمعة من دموعها تحولت إلى حشرة صغيرة دخلت إلى دكانه ، وباضت.
ولما كبرت بدأت تأكل كل ما تجده ، وانتقلت إلى دكاكينه الأخرى التي تبيع القماش والزرابي فأتلفتها ،
ولم ينفع شيء في القضاء عليها وكان يتعجب لماذا لا تدخل الحشرة لدكاكين بقية التجار الذين بجواره؟
وسمع به الناس ، وأصبحوا يتجنّبون المجيء إليه ، وكسدت تجارته ، ولم يجد من حلّ سوى بيع كل شيء بأبخس الأثمان ،
ومغادرة السّوق وهو يجرّ أذيال الخيبة.
إقرأ أيضا: حكاية العجوز عائشة
وصار كلما كان يعمل شيئا يخسر فيه ، وكثرت ديونه عند ذلك باع القصر ، ولم يمض وقت طويل حتى ساءت حاله ،
ولم يعد يجد ما يأكله.
أحد الأيّام كان يدور في السوق وقد إشتدّ به الجوع فوقف عند عربة تبيع التّفاح ولما مد يده ليسرق واحدة إلتفتت البائعة ،
فإذا بها الأرملة التي دعت عليه ، وبقربها إبنها ، فبكى حين رآها ، لكنّها قالت له : سبحان الله الذي رزقني وأذلّك من أجل لوزة حرمت منها ذلك اليتيم!
لكن خذ التفاحة فإنّي أهبها لك ، وأنا متأكّدة أنك إستوعبت الدرس!
فطأطأ حسن رأسه وذهب في حال سبيله وهو يفكّر فيما حصل ، وقرّر أن يجد عملا ،
فبقي يدور حتى تقطعت أنفاسه وفي النهاية وجد أحد أصدقاء والده ، فتعجب لمّا رآه في هذه الحالة ،
وبعدما سمع قصّته قال له إعمل عندي ، وأنا أهتم بمأكلك ومسكنك لكن على شرط ،
أن تطيعني في كل ما آمرك به.
قال له حسن : سأنفذ كل ما تأمر به.
ثمّ رافقه إلى بستان في طرف المدينة ، وقال له : ستحرث الأرض ، وتزرع الأشجار هل تقدر على ذلك؟ فأومأ بالإيجاب.
ثمّ دخلا إلى كوخ ، وقال له : ستنام هناك ، والآن هيّا إلى العمل.
ولما حلّ المساء رجع حسن إلى الكوخ ، وهو يئنّ من شدّة التّعب ، وقال : بعد حياة التّرف أصبحت أجيرا ، بسبب إمرأة لعينة ،
هل أنا مسؤول عن فقرها حتى يحصل لي هذا؟
جلس على كرسي قديم ، وهو يمسح عرقه ، ثم دخل الرّجل وفي يده صحفة ،
ولمّا نظر إلى ما فيها إبتلع ريقه ، كان فيها كسرة شعير جافة وبصلة ، وزيت ، فقال :
بعد العسل والسّمن آكل هذا الطعام؟
إقرأ أيضا: حكاية الدلال يخلف الهبال الجزء الأخير
والله أموت من الجوع ولا ألمس هذه الصّحفة!
ثم إلتفت إلى فراشه ، فوجد كومة قشّ عليها غطاء قديم ، فحاول النّوم فلم يستطع ، وبات كلّ الليل يتقلّب.
ولمّا طلع الصّباح كان في أسوأ حال من الجوع ، وقلة النوم ،
فاشتغل كافّة اليوم ولما رجع لم يعد يستطيع تحريك قدميه ، فجلس ورأى الصحفة لا تزال مكانها فأخذ قطعة خبز وغمسها في الزيت وأكل ،
كان يحسّ بأنّ ذلك ألذّ طعام أكله ، وتمنى كأسا من الشّاي السّاخن ، لكن لا سبيل إلى ذلك ، وزمن الدّلال إنتهى.
ثمّ أغمض عينيه ، ونام ملئ جفونه.
مضى عليه زمن وهو على هذه الحالة ، ونسي الدلال الذي عاش فيه ، وزالت عنه السّمنة ، وأصبح نحيفا ، وصح بدنه.
بعد عام جاءه صاحب والده وقال له لقد إدّخرت لك قدرا من المال يكفي للزواج ،
وأحد أصدقائي له إبنة صغيرة ، ما رأيك أن تتزوّج منها ، وسيعطيكما أبوها دارا تسكنان فيها وهي قريبة من هنا.
فرح حسن ، وقال : بالطبع أنا موافق.
يتبع ..