حكاية زنوبيا ملكة تدمر وجذيمة
حكاية زنوبيا ملكة تدمر وجذيمة
من تاريخ الشّام في أوائل العصر الميلادي ، من غدر إرتدّ غدره على نحره.
ملكة “تدمر” سمّاها الرّومان سابتيميا زنوبيا (Septimia Zenobia) ،وفي الآرامية “بات زباي” ( عشيرة زباي) ، والعربية ” الزّباء.
تذكر الرّوايات العربية أنّ ملك الجزيرة ومشارف بلاد الشّام رجل يسمّى “عمرو بن ظرب “.
في أحد الأيام قرر أحد ملوك العراق واسمه جذيمة الأبرش الزحف عليه بما جمعه من قبائل العرب ، ودارت معركة شديدة ،
قتل فيها عمرو بن ظرب ، وانّفضت جموعه ، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين محملين بالغنائم.
فملكت من بعد عمرو إبنته “الزّباء ” ، فلمّا قوي أمرها ، واستحكم ملكها رغبت في غزو جذيمة الأبرش طلبا لثأر أبيها.
فقالت لها أختها زبيبة ، وكانت ذات رأي ودهاء : يا زباء ، إنّك إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده ، إن ظفرت أصبت ثأرك ،
وإن قتلت ذهب ملكك ، والحرب سجال وعثراتها لا تستقال ، ولم تري بؤسا ولا غيرا ،
ولا تدرين لمن تكون العاقبة ، وعلى من تكون الدائرة ، فقالت لها الزباء : قد أديت النصيحة ، والرأي ما رأيت.
فانصرفت عما أضمرت عليه من غزو جذيمة ، وأتت أمرها من وجوه الخديعة والمكر ،
فكتبت إليه تدعوه إلى نفسها وملكها ، وأن يصل بلاده ببلادها.
وكان فيما كتبت به أنها لم تجد ملك النساء إلا ضعف السلطان ،
وإنّها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفئا غيرك ، فأقبل إليّ وتقلد أمري مع أمرك.
فلمّا انتهى كتاب الزّباء إلى جذيمة ، استخفّه ما دعته إليه ، ورغب فيما أطمعته فيه ، وجمع إليه ثقات أصحابه ،
فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء ، واستشارهم في أمره ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ، ويستولي على ملكها ،
وكان فيهم رجل يقال له : قصير بن سعد وكان ناصحا لجذيمة ، فخالفهم فيما أشاروا به ،
وقال : رأي فاتر ، وغدر حاضر ، فذهبت مثلا ، فنازعوه الرأي.
إقرأ أيضا: حكاية الملك وتمثال الذهب
فقال : إني لأرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا ، فذهبت مثلا ،
وقال لجذيمة : اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، ولا تقع في حبالها ، وقد قتلت أباها ، فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير.
فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجّعه على المسير ، فأطاعه ، وعصى قصيرا.
واستخلف عمرو على ملكه ، وسار في وجوه أصحابه فأخذ على الفرات من الجانب الغربي ،
فلما نزل الفرضة استقبلته رسل الزّباء بالهدايا ، فقال : يا قصير كيف ترى؟
قال : خطر يسير في خطب كبير ، وستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ،
وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون ، فاركب العصا ( وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى )
فإني مسايرك عليها ، فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا ، فركبها قصير وفر.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزّباء ، فأظهرت له الغدر :
وقالت إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب ، ثم أجلسته على نطع وقطعت أوردته وتركته ينزف حتى مات.
عندما رجع قصير قال لعمرو بن عدي : تهيّأ واستعد ، نأخذ بدم خالك ،
قال : وكيف لي بها ، وهي أمنع من عقاب الجو ، وكان أبوها قد اتخذ لها ولأختها النفق فلا يمكن الوصول إليها.
ثم قال لقصير أنت أبصر ، فجدع قصير أنفه وأثر بظهره ، وأظهر كأنه هارب ، وأظهر أنّ عمرو فعل به ذلك ،
وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة.
ثمّ سار حتّى قدم على الزباء ، فأمرت به فأدخل عليها ، فإذا أنفه قد جدع ، وظهره قد ضرب ،
فقالت : ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال : زعم عمرو بن عدي أني غرّرت بخاله وزيّنت له السير إليك ،
ففعل بي ما ترين ، فأقبلت إليك.
فألطفته وأكرمته ، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والمعرفة بأمور الملوك.
إقرأ أيضا: قصة رجل أعرج
فلما عرف أنّها وثقت به قال لها : إن لي بالعراق أموالا كثيرة وبها طرائف وثياب وعطر ،
فابعثيني إليها لأحمل مالي ومن طرائف ثيابها وصنوف الأمتعة فتصيبين في ذلك ربحا وفيرا.
فلم يزل يزيّن لها ذلك حتى سرّحته ، ودفعت معه عيرا فقالت : انطلق إلى العراق فبع بها ما جهزناك به ،
وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها.
فسار قصير حتى قدم العراق ، وأتى الحيرة متنكرا فدخل على عمرو بن عدي فأخبره بالخبر ،
وقال : جهزني بالبزّ والطرف والأمتعة ؛ لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك ،
فأعطاه حاجته وجهزه بصنوف الثياب وغيرها.
فرجع بذلك كله إلى الزّباء فعرضه عليها ، فأعجبها ما رأت وازدادت به ثقة.
ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهّزته في المرّة الأولى فسار حتى قدم العراق ، ولقي عمرو بن عدي ،
ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه إلا حمله إليها ، ثمّ عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمرا الخبر ،
وقال : اجمع لي ثقات أصحابك وجندك ، وهيّء لهم الغرائر ، واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين ،
فإذا دخلوا مدينة الزّباء أقمتك على باب نفقها.
وخرجت الرجال من الغرائر ، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه ، وإن أقبلت الزبّاء تريد النّفق جللتها بالسيف.
ففعل عمرو بن عدي ، ووضع الرّجال في الغرائر ثم وجه الإبل إلى الزباء ، فلما إقتربوا من مدينتها ،
تقدّم قصير إليها فبشّرها بكثرة الهدايا والطرائف ، وسألها أن تخرج فتنظر إلى تلك الإبل وما عليها من الأحمال.
فأبصرتها تكاد قوائمها تسوخ في الأرض.
فقالت يا قصير : ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا باردا شديدا
إقرأ أيضا: قصة وعبرة الجزء الأول
فلمّا توسّطت الإبل المدينة ، خرجت الرّجال من الغرائر ، وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السّلاح ،
وقام عمرو بن عدي على باب النّفق ، وأقبلت الزّباء لتهرب منه ، وأبصرته قائما فعرفته ، فمصّت خاتمها ،
وكان فيها سمّ ، وقالت بيدي لا بيدك يا عمرو ، وتلقاها بسيفه فقتلها ، ونهب المدينة ،
وانكفأ راجعا إلى العراق بعد أن ضمّ ملكها إلى ملكه.