حكاية عصفور وجرادة الجزء الأول

حكاية عصفور وجرادة الجزء الأول

كان في سالف العصر والأوان وفي مدينة من مدن ذلك الزمان رجل فقير يلقب ” العصفور ” يعيش مع زوجته الملقبة ” الجرادة ” في كوخ صغير في الضواحي.

كانت الجرادة مستاءة جداً من كون زوجها عاطلا عن العمل ، فكانت تقوم بترقيع الملابس لتحصل على بعض المال.

وفي أحد الأيام خرجت الجرادة للسوق ثم عادت ساخطة على حال زوجها وخاطبته قائلة :

ما هذا الكسل يا عصفور ، إذهب وابحث عن عمل فلو كنت عاملا لما احتجت أنا إلى ترقيع ملابس الآخرين.

فقال لها متململا : وكيف يا جرادة في هذه الظروف الصعبة ، فقالت : الأمر سهل جدا.

فقد مررت في السوق برجال يرتزقون ، وبطريقة أسهل ممّا تتصوّر ،

وأشارت المرأة على زوجها أن يأخذ كيساً مليئاً بالرمل ، ويدعي أنه يعرف الغيب ، فسيتجمع النّاس حوله أفواجاً يريدون أن يروا حظهم ،

وما عليه إلا أن يجعل على الرّمل خطوطا ، ويخبرهم بما يراه.

أعجب العصفور بالفكرة ، وقرّر أن يجرب ، فأخذ كيس رمل كما أشارت زوجته ، واتجه إلى السّوق ، وصاح في القوم :

بدرهم أقرأ لكم طالعكم ، أخذ الفضول الناس ، فواحد تلو الآخر بدئوا يتجمعون حوله.

دخل عراف على كبيرهم ، وقال : سيدي هناك من يدّعي أنّه يضرب الرّمل وهو ليس من جماعتنا ،

يجلس في وسط السّوق ، وقد تجمّع حوله جمع غفير من الناس ، وأنا أخشى يا سيدي أن يسلبنا رزقنا ، ويأخذ مكانك.

فانتفض كبير العرافين من مكانه وقال مزمجراً : وأين هو؟

برح مكانه ، وراح يراقب العصفور عن بعد ، وكان هذا الأخير قد بدأ يرتاح للوضع ويثق في نفسه ،

وكانت السّعادة بادية على وجهه وهو يرى الدّراهم الفضّية تنهمر عليه ، وبدا النّاس مقتنعين بنبوءاته.

إقرأ أيضا: إمرأة إحتجزت حبيبها داخل حقيبة حتى الموت

وكعادة ذلك الزّمن كان النّاس متحمّسين لهذه الأمور ، بل مازالت هذه العادة إلى الآن ،

عندما رأى العرّاف براعته في ضرب الرّمل ، والتفاف النّاس حوله ، عزم على إختباره.

فراح يفكر في طريقة لكي لا يشك في أمره ، وبينما هو كذلك إذ وقعت عينه على عصفور صغير يطارد جرادة ،

وهنا ترك الجرادة تمرّ ، وتعرّض ببرنسه للعصفور فعلق فيه.

وسار حتّى وقف أمام العصفور الذي ظنّ أنه يريد معرفة حظه ، ففتح كيس رمله ، لكن كبير العرافين استوقفه قائلاً :

لا ، لا ، لم آتي لهذا السّبب ، لكن أعتقد أنك يا عزيزي ترى أنّ هذا العمل مربح.

كان العصفور يحدّق في الرّجل دون أن يفهم ما يقصده ، فأضاف قائلاً :

أنا المشرف على هذه المهنة في السّوق ، ولقد دخلت منطقتي ، وقمت بالعرافة دون إذني ، فإنك تستحقّ العقاب.

ذعر العصفور لسماع هذه الكلمات ، ولعن زوجته الجرادة.

هدّأ العرّاف من نبرته وقال : لكنني سأخضعك إلى اختبار ، فإن نجحت فيه عددتك عرافاً كفؤاً ودعوتك للإنضمام إلى جماعتي ،

و إن فشلت ، فسأشكو أمرك إلى صاحب السّوق ، وسيحاكمونك بتهمة الشّعوذة.

لم يستطع العصفور أن ينطق كلمة واحدة لشدّة خوفه ، فلوّح كبير العرافين بالبرنس في يده قائلاً :

خمّن ماذا يوجد داخله ، دارت به الأرض ، وامتقع لونه فكّر في زوجته التي أوقعته فيه هذه المصيبة :

وتمتم : لولا الجرادة ما وقع العصفور.

عندما سمع الرّجل ذلك إنعقد لسانه من الدّهشة ، وهز البرنس فخرج العصفور ، وطار.

نظر كبير العرافين إليه وهو يبتعد ، وقال بانفعال : أحسنت ، أحسنت ،

لقد تفوقت على كل تلاميذي ، وإكراماً لك سأعطيك مكاناً في مجموعتي في السّوق.

إقرأ أيضا: فتاة تبلغ من العمر خمسا وعشرين عاما

فعلاً كان حظ العصفور رائعاً ، وحصل على تقدير كلّ العرافين ، وكان يعمل من شروق الشمس ،

حتى إذا حان الغروب اجتمع كل أفراد المجموعة إلى كبيرهم ، ليقتسموا ما يجنون من مال وكان وفيراً ،

وافتخرت الجرادة أشد الفخر أمام جاراتها بآرائها الصائبة.

وقد تركت ترقيع الملابس وارتاحت في بيتها ، ورغم أنّها عاقر لا تنجب ، إلا أنّ زوجها لم يتركها ، ولم يتذمر من حالتها.

وكان العصفور رجلاً بسيطاً إلى حد الغباء ، بينما لم تكن الجرادة إمرأة حادة الذكاء ولكنها كانت مدبرة جيدة.

استتبّ الأمر للعصفور وقتاً يقدر بالشهور لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفِنُ ،

ففي صبيحة يوم بارد أعلن الملك خبر سرقة جواهر ثمينة من خزانته ،

و استدعى كل عرافي تلك البلاد ليكشفوا له بما يدّعون من خوارق عمن ارتكب هذه الجناية.

وقطع الملك في تلك الصبيحة كثيراً من الرؤوس ، وهدد بذلك كل عراف لا يأتيه بالخبر اليقين.

حتى جاء الدور على كبير العرافين ذاك وكان لا يعرف شيئا.

إنه الآن في ورطة ، ولكن له من الخبث والمكر ما يمكنه من الخروج منها كالشعرة من العجين.

قال للملك أنه لم يعد كبير العرافين منذ وقت طويل ، وأن هذه المهمّة تم إسنادها للعصفور ، لأنه أمهرهم وأكثرهم دراية بالعرافة.

كلنا نرغب أن نعلم كيف سيتصرف العصفور ، هذه المرة ليست ككل مرة ، إنه الملك والعبث مع الملوك أمر لا تحمد عقباه.

وكان الرجل يعلم أكثر من غيره أنه لا يملك أي نصيب من هذا العلم ،

لكنه أراد أن يناور وليكسب وقتاً ولو كان قصيراً في الحياة.

فأوهم الملك أنه قادر أن يأتيه بضالته ، على أن يسكنه أحد غرف القصر ، ويمهله شهرا ليجد الحل ،

ويأتيه بتسع وعشرين دجاجة سمينة وديك.

يا ترى ماذا سيفعل العصفور؟ وما هي الحيلة التي يدبّرها هذا الرجل البسيط؟

إقرأ أيضا: حكاية عصفور وجرادة الجزء الأخير

المشكلة أنه لا يعرف شيئا عن القصر ، وعن أعوان الملك ، ليس له خيط يمكن أن يبدأ منه ،

وهو يعلم أنه سيموت عاجلاً أو آجلاً فأراد أن يمنح لحياته ثلاثين يوماً أخرى يتناول في كل يوم منها طبقاً من تلك الطيور ،

ثم الديك الذي سيتوج العشاء الأخير.

مسكين الملك ، إعتقد في قول رجل أقل ما يوصف به هو الغباء ، لكن للقدر أسراره التي لا نعلمها.

كان من سرق جواهر الملك عصابة فيها تسعة وعشرون فردا وزعيمهم ، وكان من ضمنهم جارية هي التي دلتهم على المكان ،

وفتحت لهم سردابا يؤدّي للقصر.

أخبرتهم الجارية بحكاية عرّاف ماهر إسمه العصفور ، فانزعج الزّعيم وأمرها بالتّجسس عليه ،

كان العصفور يتناول عشاءه ، وعندما إنتهى ، حمد الله ، وقال : هذا واحد من الثّلاثين قد وقع.

أحسّت الجارية بالخوف ، واعتقدت أنه قد تفطن إليها ، فعادت إلى الزعيم مضطربة ، وقالت أنّ أمرها قد إنكشف ،

وعليه أن يرسل شخصا آخر عبر السّرداب.

لكن الزّعيم لم يصدّقها ، فلا أحد يعلم بأمرهم ، فأرسل في الليلة التالية عضواً آخر ليتجسس على العصفور ،

فسمعه يقول : هذا ثاني الثلاثين قد وقع

فرجع ، وأخبر الزّعيم بما سمع ، ليرسل ثالثاً ، وسمع نفس ما قاله الآخران : هذا الثالث من الثلاثين قد وقع.

وسيطر الرّعب على أفراد العصابة ، وهم يتداولون عليه واحداً تلو الآخر ، حتى أتى دور الزّعيم ،

وقرّر أن يذهب ليرى ما يحدث.

كان العصفور هذه الليلة قد أنهى عشاءه الأخير المكوّن من الدّيك ومرّت الثلاثون يوما ،

وانتهت مهلته ، و غداً سيقُطع رأسه لا محالة.

قال وهو يتنهد بحزن : هذا رأس الثلاثين قد وقع ، ذعر زعيم العصابة ، وتراجع خطوات حذرة ،

لقد تعرّف العصفور عليه ، إنّه في موقف لا يغبط عليه ، ولا يمكن أن يخلصه منه أحد ،

إلا إذا أراد أن يتصرف بكياسة ، ويفدي حياته.

يتبع ..

Exit mobile version