خالتي المبتسمة
كانت خالتي من أحب الناس إلى قلوبنا أنا وإخوتي ، لوقوفها معنا في أحلك الظروف ،
ومن الأشياء التي لا تغادر ذاكرتي أنها الشخص الوحيد الذي كان يطمئن علينا خاصة بعد وفاة والدي.
حيث أصبح الدق على بابنا من الأشياء نادرة الحدوث ، بل من الأشياء التي كنّا نتمناها أن تحدث ، ليس طمعا بما يحملونه لنا ،
بل لنحس بالأنس وأن الحياة لا زالت مستمرة في الخارج لأننا كنا نعيش هدوء مخيفا وصمتا مرعبا ،
وبرودة شديدة وقاتلة تعبث بالأرواح والجدران ، فبموت والدي كأن الجميع مات ،
حيث تسيّدت طقوس الموت وأتى الفناء
على كل شيء.
كان بيتنا في عهد والدي يشبه الحمّام العمومي التقليدي الذي تشتعل نيرانه بعنفوان السخاء والكرم ،
فيه من البركة ما يجعل الكل يقصده للتبرك الرجال والنساء سواء ، سيدات وعذراوات تتدفقن من كل صوب لتتدفأن بحرارته وتنعمن بالإسترخاء،
وتخرجن وهن مخضبات بالحناء وبكامل أناقتهن.
لكن شاءت الأقدار وانطفأت نيران الحمّام وهجره الكل ، لا أحد أصبح يعقد النية للتوجه إليه أو حتى السؤال عن أهله من باب الوفاء فقط.
هي خالتي فقط التي كانت تأتي ، أعرفها من طريقة طرقها للباب ، طرقات قوية ومتتالية ،
ما إن أفتح لها الباب حتى تدفعني بكل قوة وتنزلق كالكرة داخل الملعب ، تصاحبها زوبعة من الضجيج ،
ويجرفني وابل أسئلتها التي لا تكاد تتنفس كيف حالكم؟ هل أنتم بخير ؟ لماذا لا تنهضون باكرا؟ أين هي أختي؟
لماذا تضعون هذا الكرسي هنا ؟ ألم يجد القط سوى هذا المكان لينام فيه؟ ، يا لقد تعثرت به و كاد يُسقطني.
أنت لماذا واقفة مثل الصنم ألا ترين أنني متعبة من حمل القفة !
إقرأ أيضا: كان ﻓﻲ ﻋﻤﺮﻱ 23 ﻋﺎﻣﺎ ﻓﺄﺣﺴﺴﺖ ﺃﻧﻲ ﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ الإﺭﺗﺒﺎﻁ ﻭﺍﻟﺰﻭﺍﺝ
تعالي وخذيها عنّي ، بدل الوقوف كعمود الكهرباء فعلا جيل كسول ، ولدوا من بطون أمهاتهم مرهقين.
تتفقد أمي القفة فتجدها مليئة باللحم والخضروات والفواكه
أمي: لماذا أتعبت نفسك يا أختي ، سامحيني على مشقة السفر.
أنت أختي الكبيرة ، والواجب أنا التي أزورك ولست أنت من تزورينني.
خالتي : أووووه رجاء أسكتي ، كلامك رفع لي الضغط ، عن أي مشقة تتحدثين ،
يا أختي العزيزة أدرك أنك مريضة أولا وثانيا مسؤولية الأولاد لا تسمح لك بالتحرك ، لذلك أنا التي ستأتي كلما سمحت لي الفرصة.
لا تكثري الكلام وقومي وأتيني بفنجان قهوة لأن رأسي يكاد ينفجر من ضجيج الحافلة.
المهم ليكن في علمك ، هذه القفة ليست لكم ؟ لقد جلبت عشائي معي لأنني أنوي المبيت عندكم ، لقد إشتقت لكم جدا.
من أشهر عباراتها : أنا جئت للمبيت عندكم شئتم أم أبيتم ، فإذا لم تقبلوا بي كضيفة ،
إضربوا رؤوسكم على الجدران ، فأظن أن البيت مليئ بالجدران الكثيرة.
حضرت أمي العشاء واجتمعنا حول المائدة ونحن نأكل في جو تسوده الفرحة والدعابة والنكتة فخالتي شخصية مرحة وتلقائية ،
بطريقة كلامها وانتقائها للمفردات المضحكة حتى لم تكن تنوي التنكيت تجعلك تضحك رغما عن أنفك بسبب عفوية آحاديثها.
(تك تك )تسمع خالتي صوت طقطقة في فمها ، تتفقد المكان الذي إنبعث منه الصوت ، تصرخ بكل سخرية
والله حصرتاه هذا ما كان ينقصني.
تنزع طقم أسنانها الذي إنقسم إلى شطرين.
وتلفه في منديل.
وتخاطب أخي
الله يحفظك يا إبن أختي ، غدا خذه إلى طبيب الأسنان لكي يصلحه لي.
سأخذه يا خالتي لا تقلقي ، فنحن كم من لدينا من خالة لكي ندلّلها.
إقرأ أيضا: يقول أحد الشباب كنت صغير السن ولا وظيفة لي ولا دخل
واصلت خالتي الأكل وهي تغمس لقميمات الخبز في المرق ، مثل طفل يتعلم الاكل لأول مرة ، وهي تتلذذ به وقد عزّزه لحم الديك البلدي أكثر فأكثر.
في الصباح أخذ أخي طقم الأسنان وأصلحه وعاد به إليها ، كانت فرحتها لا توصف عند إستلامها له ،
كأنها استلمت تحفة أثرية ذات قيمة كبيرة ، فعلا فهو كذلك يجعلها تصدر الإبتسامات والتفاؤل للكل ،
خاصة لما تلمع تلك السن الذهبية التي على الجانب مثل بريق الأمل في ظلام اليأس.
أدخلت خالتي طقم أسنانها ، لكنها تفاجآت أنها لا تستطيع أن تدخله داخل فمها ،
كأنه كبر فجأة حتى صارت تضغط عليه بكل قوة لتثبته فوق لثتها المهترئة ،
وأخيرا تمكنت منه والمضحك أنها كانت تظل بفم مفتوح طوال الوقت والمسكينة كلما تذمرت منه ومن الألم الذي أصبح يسبّب لها ،
نجمع كلنا على رأي واحد ونقول لها : لقد إعتدت على البقاء بدونه ، أصبري ستعتادين عليه مرة أخرى.
كانت مبتسمة غصبا عنها طوال اليوم لا تستطيع التحدث أو الأكل أو الشرب بسبب تلك الإبتسامة المستديمة والمزيفة.
بعدما طفح الكيل وضاقت به ذرعا وبالألم المتواصل نزعته لتنعم بقليل من الراحة ، نادتني لكي أخبئه لها ،
لقد لفت إنتباهي شيء ما في ذلك الطقم.
كانت بقايا السجائر والإصفرار ، ضف إلى ذلك أنه كان طقم أسنان عملاق.
قلت لخالتي : يا خالتي أظن أن هذا الطقم ليس لك ؟
وكيف عرفت ؟
إنه مصفر وفيه بقايا التبغ ، أظنه لرجل مدمن على التدخين.
ناوليني إياه من فضلك ، وبدأت تدقق فيه ،
والله كلامك صحيح يا إبنه أختي.
الله لا تربحك يا وجه الهم ( تقصد الرجل المدخن صاحب طقم الأسنان)
أخذه أخي مرة أخرى إلى طبيب الأسنان وتبين أن طواقم الأسنان إختلطت في الورشة ،
لقد كانت خالتي ضحية مساعد الطبيب الذي
إلتبس عليه الأمر.
إقرأ أيضا: عدو النساء الغامض
وفي النهاية تمكنت خالتي من إسترجاع طقم أسنانها الأصلي مسترجعة إبتسامتها الأصلية ،
قائلة لقد أصبح حالي كذلك الذي ” جاء يسعى ، فضيّع تسعة”
قضينا الليل كله مجتمعين حول خالتنا ، نتبادل الأحاديث وهي تحكي لنا عن حياتها عندما كانت شابة وكان زوجها شابا يسترق النظر إليها.
عن قصص الثورة والحرب ، عن إبنتها التي فقدتها وهي إبنة إثنتا عشر سنة فقط.
فمرة كانت تقهقه ضحكا ومرة تبكي ألما وتكفكف الدموع المكبوتة داخل روحها المرحة ،
عابرة بنا بكل سلاسة ممرات الزمن من شارع إلى شارع ، فغفا من غفا ونعس من نعس.
وهناك من كان يقاوم ليصمد مثل الحياة فعلا.
هناك أناس رائعون فعلا مثل خالتي التي كانت في حد ذاتها رواية بفصولها الجميلة التي لا تنتهي ،
والمصيبة أنّ هؤلاء الأشخاص لا يتكرّرون ولن يتكرروا ، هم نسخة واحدة ووحيدة أصلية فحسب ،
وتبقى فرصنا للقاء بهم فقط لمّا نكرّرهم في ذكرياتنا ونحن نجترّها من شدة الحنين.