دعا رئيس جامعة اللاذقية جامعة تشرين اليوم عام 1972م جميع أساتذة الجامعة آنذاك إلى العشاء في منزله بمناسبة مرور عام على تأسيس الجامعة.
كان الدكتور الشيخ محمد سعيد البوطي في تلك الفترة عميداً لكلية الشريعة في جامعة دمشق ،
وبرغم مشاغله وإرتباطاته الكثيرة فقد قبل أن يأتينا من دمشق كل يوم أربعاء لتدريس مادة القرآن الكريم في قسم اللغة العربية.
فكنّا نستضيفه تلك الليلة ليعود إلى دمشق بعد ظهر الخميس.
كنت أعمل آنذاك في تأسيس مكتبة الجامعة ، إذ لم تكن هذه المكتبة موجودة قبل ذلك الوقت ،
وحدث أن زارني رئيس الجامعة في مكتبي وأنا أستضيف الدكتور البوطي عندي ،
فوجّه إلينا معاً الدعوة لحضور العشاء مساء يوم الخميس.
أجبت من فوري بقبول الدعوة شاكراً ، ولكن الدكتور البوطي طلب بلطف أن يستأذن والده في دمشق أولاً !
لا أدري أيّنا كان وقع المفاجأة عليه أكبر ، أنا أم رئيس الجامعة ، فأن يعتذر بأي عذر آخر سيبدو أمراً عادياً لا غبار عليه ،
أما أن يطلب أستاذ جامعي كبير في الأربعين (تقريباً) وأبناؤه الآن ما شاء الله طلاب في الجامعة ،
وهو عميد لكلية كبيرة ككلية الشريعة ، وفي جامعة كبيرة كجامعة دمشق ،
أن يطلب الإذن من والده لحضور عشاء وتمديد زيارته للاذقية من مساء الخميس إلى صباح الجمعة ،
فهذا أمر كان وقعه عليّ وعلى رئيس الجامعة كما تؤكد ملامح الذهول في وجهه.
وقع الصاعقة ، ومع ذلك فقد إستجمع رئيس الجامعة قواه وعدّل ملامح وجهه بسرعة الدبلوماسي الحكيم وتوجّه إليّ قائلاً :
إقرأ أيضا: تروي إمرأة قصة عجيبة تقول
إذهب يا بسّام مع الدكتور البوطي إلى مكتبي ليتصل من هاتفي المباشر هناك بوالده في دمشق.
المفاجأة لم تنته بعد ، ففي مكتب الرئيس أمسك الدكتور البوطي بالسماعة وسمعت منه وهو يحدث والده على الهاتف العبارات التالية
التي أحاول أن أنقلها هنا حرفياً :
السلام عليكم أبي
السيد رئيس الجامعة دعاني مع بقية الأساتذة مساء غد للعشاء في منزله ، فهل أستطيع حضور المأدبة وأعود إلى دمشق صباح الجمعة.
شكراً أبي ، السلام عليكم.
ووضع السماعة ، فقلت له مجاملاً : الحمد لله ، هكذا أصبحت الأمور أسهل وتستطيعون الآن البقاء باطمئنان ،
وكانت المفاجأة الثانية تنتظرني على لسان الشيخ :
لا والله ، لا أستطيع ، أبي لم يوافق !
لن تتصور أبداً معالم المفاجأة على وجهي ، ولا على وجه رئيس الجامعة حين وصفت له بدقة ما جرى على الهاتف.
هل هذا معقول؟! ولا نقاش ولا حوار ولا إلحاح ، ولا حتى كلمة رجاء أو محاولة ثني والده عن رأيه!
(لا) يعني (لا) وكفى. ترى ، ماذا سيقول أبناء هذا الجيل الطالع وهم يسمعون هذه القصة ،
وهل سيحاول بعضهم أن يجرّب فعل هذا مع نفسه ومع أبيه ، ولو مرة واحدة؟!
الأغرب من هذا أنني حين قدمت أستاذنا الدكتور البوطي قبل سنوات لجمهور الحاضرين في أكاديمية أوكسفورد ،
وهو يستعدّ لإلقاء محاضرته ، وسمعني وأنا أقصّ عليهم هذه القصة ، نظر إليّ نظرة هادئة كمن ينظر إليك متوقعاً بقيّة النكتة ،
وعيناه تقولان لي : نعم؟ وماذا في هذا؟ أين وجه الغرابة في هذه القصة.
إجعلوا أولادكم يقرؤون هذه القصة لعلها تنفعهم في تعلم الأدب.
حياة العلماء الأجلاء كلها دروس وعبر وأخلاق وآداب وتربية وتوجيه ، وأجيالنا تفتقدها.