رجفة الفقدان قصة قصيرة
رجفة الفقدان قصة قصيرة
كانت السيدة ربيعة ذات الأربعة وخمسين عاما تقف مشرقة أمام المرآة كصباح ذلك اليوم.
بعدما عاينت نفسها لآخر مرة ، أخذت تنهيدة طويلة لتنهيها بابتسامة خفيفة رُسمت على الشفاه ،
إنها إمرأة تستحق التقدير الكبير.
فبالرغم مما عانته ، وبالرغم من أنها تعيش وحيدة بعدما فقدت أسرتها بالكامل في حادث سير قبل عشر سنوات من الآن ،
إلا أنها لازالت محتفظة بحبها للحياة ، كأنها كانت حليفتها في النصر.
وهي اليوم تنوي زيارة أعز صديقاتها صديقة الطفولة ، وتريد أن تكون في أحسن أحوالها.
كانت قد حجزت تذكرة للحافلة المتجهة إلى مدينة إقامتها ، جلست بقرب النافذة فلطالما أحبت مشاهدة المناظر في الخارج من خلال زجاج النافذة.
يذكرها هذا التتابع للمشاهد بشريط الحياة ،
عندما تكون في هذا الموقع ،
دائما عليك أن تبقي تركيزك على المشهد الحاضر وتكون جاهزا لتلتقط تفاصيل المشهد القادم.
ومن شدة سرعة تعاقب الصور لا تجد الوقت لتفكر في الذي مضى ؛
إن التجربة تمدها بجرعة زائدة من إكسير الحياة ،
كانت وتعني لها الكثير ، لكن هناك ما جعل صفو مزاجها يتعكر قليلا.
فعند دخولها القطار لفت انتباهها فتى في العشرين من عمره وهو يتحدث على الهاتف بنبرة يعلوها الخوف والقلق ،
كأن أحد أحبائه قد أصابه مكروه مثل هذه المواقف تؤجج بداخلها مشاعر لا تفهمها ،
هي فقط تفهم أن ما مرت به من فقدان لأحبائها بتلك الطريقة القاسية ، يجعلها متعاطفة مع مثل هذه المواقف.
إقرأ أيضا: ما رأيك بهذا الفستان؟
وبينما هي لازالت تحاول ترويض مشاعرها ، وقف نفس الشاب يسألها بصوت خافت مكسور ،
إن كان المقعد بجانبها شاغرا.
ردت وهي مرتبكة : طبعا تفضل ، بادرها
الشاب بالشكر ، وهو يلقي بجسده المنهار على المقعد.
كانت هي لازالت تحاول ترتيب نفسها من الداخل ، بينما هو انكب على هاتفه ، يراسل أحدهم.
بدا متوترا جدا ، وكانت أصابع يده اليسرى تشكل مجموعة من الأشكال الهندسية الغريبة المشوهة نتيجة الضغط عليها بقوة ،
وكلما تقدم الزمن كانت تلك الأشكال تزداد تعقيدا ، وصوت اصطكاك الأصابع بتلك الطريقة العنيفة قد جعلها تدخل إلى أعماقه وتحس بذلك التصارع والقلق الذي يعيشه.
لدرجة أنه بدا لها كفه هو قلبها الذي يعتصر ويتصارع ،
أما قدماه الغير الثابثتان تجعلان جسمه يرتعد بالكامل.
كان لا يغفل عن شاشة هاتفه وهو غارق فيها ، وكلما أرسل رسالة ، كان مستوى إهتزاز قدميه يزداد بطريقة جنونية.
ينتظر الرد على أحر من الجمر متمنيا لو يسابق الزمان ليعرف الجواب.
يبدو أنه يراسل أحدهم ، يرسل في بعض الأحيان مقاطع صوتية للطرف الآخر ، إنها أمه.
من خلا كلماته فهمت أن أحد أحبائه مريض جدا ، فهمت لماذا يتصرف على هذا النحو.
إنه ذلك القلق الذي يستحوذ علينا عندما يصاب لنا عزيز بمكروه ونشعر أن بداخلنا طاقة مهولة تدفعنا بلا هوادة لفعل شيء.
أي شئ لتقديم المساعدة ، ويزرع بداخلنا قوة كلما حاولنا كبحها ظهرت على أجسادنا في شكل شحوب وتموجات جلدية واهتزازت كهربائية.
إقرأ أيضا: نظيرة نيقولا أبلة نظيرة ( 1902 – 1990)
فتصبح كل خلية بداخلنا مستقلة بذاتها محدثة بذلك نوعا من التفكك والإنشقاق في وحدة الجسم ،
وشعرت أنه يتمنى لو كان يملك قوة خارقة ليكون بهذه اللحظات مع أخته في محنتها.
نطقت دون شعور منها وقد جرفتها المشاعر والرغبة في المواساة ،
ستكون على ما يرام ، وهي تمسك كفه
نظر إليها متفاجئا ، لتكمل مواساته بنظرات دافئة ، فهم أنها شعرت به.
وقبل أن ينطق بكلمة شكر ، بادرت هي بسؤاله
هل هي مريضة؟
نعم إنها مصابة بمرض نادر كم هي جميلة وطيبة ، لو أنك تتعرفين عليها.
لا أفهم لماذا يتعرض الأشخاص الطيبون لهذا ، إنها أختي أكبرها بثلاثة أعوام ، طيلة حياتي التي قضيتها برفقتها لم تؤذني ولو مرة ولم تؤذي أحدا.
تحب الجميع حتى من سبب لها الأذى كانت تصفح عنه ، كانت دائمة الإبتسامة والتفاؤل وتدعو كل شخص ضل طريقه إلى الله ،
ولم أرى في حياتي شخصا يقدر الله ويحترمه بتلك الطريقة.
كنا نرى أنها شخص فريد ونادر ؛ ذكاء وحكمة وعفة وحب لا شيء يعيبها ، والآن نواجه خوف فقدانها.
فكرة أن نفقدها لا يمكنني حتى تحملها في ذهني فما بالك بحصولها فعلا.
ازداد ارتجاف جسده وخصوصا يديه وبدا أن وجهه سيتفكك إلى أجزاء صغيرة ، يبدوا أنه سيبكي.
ضمته إلى صدرها وهي تربت عليه ، وهو يجهش بالبكاء ، ثم قالت له :
لا تقلق كل شيء سيكون على ما يرام ، فقط كن معها بقلبك وجسمك وروحك ، لا تدعها تراك ضعيفا.
كن قويا أمامها ، فهذا سيساعدها.
يبدوا أنها نجحت في تخفيض توتره ، وفي هذه اللحظة كانت الحافلة قد توقفت في المحطة التي سينزل فيها الشاب ،
حيث هدأ تماما ، وأضاء وجهه مرة أخرى.
شكرها كثيرا وهو تحت تأثير الإمتنان ، فشعرت هي براحة كبيرة دخلت بعدها في نوم لطيف وطفيف.