سر الغربان الجزء الرابع
بحث علي عن الغراب الذي قد كان العبد كروان أصابه وأخذ منه الورقة ، طواها ثم رماها في العين الجافة وأغمض عينيه ،
كان يريد أن يسمع هدير الماء لكنه لم يحدث شيء.
فتح عينيه وقال : هل أخطأت في شيء.
كان كروان العبد واقف بجانبه ، قال له : ربما لم تضعها في المكان الصحيح العين لها معنى مصدر الماء وأيضا الشيؤ الذي نبصر به ،
ألم تلاحظ وجود نقش لأفعى بعيون كبيرة ،
لست ساحرا لكن أعتقد أنها طلسم سحري.
قال علي : إنها في مرتفع صخري.
نزل كروان إلى الحوض الذي تحت الصخور أخذ الورقة وثبتها على سهم ثم سدد في إتجاه العين اليمنى للأفعى ،
وأطلقه فدخلت الورقة في الحفرة.
وبعد دقائق سمعا صوت إندفاع الماء بقوة وامتلأت السواقي بالماء وبدأت ترجع نظارة الأرض وخضرتها ،
وامتلأت عراجين النخل بالتمر والأشجار بالرمان والتفاح.
سأل علي العبد كروان هل ديار بني عامر بعيدة من هنا؟
أجاب : لا مسافة نصف ساعة لا غير.
قال له : علينا بالذهاب الآن قبل أن يشتد الحر.
عندما وصلا لاحظ علي كثرة الفقر والبؤس في القبيلة ، مر بهم رجل فسأله عن ملكهم ،
أشار من بعيد إلى خيمة بالقرب منها شجيرات جافة وقال له : ستجده هناك كان هناك صبي يلعب أمام الخيمة ناداه وقال له أخبر أباك أن غرباء يريدون رؤيته.
بعد لحظات خرج شيخ يبدو عليه الإعياء ، وقال : تفضلوا.
جلس علي وكروان على زربية قديمة مهترئة وأحضر الصبي آنية فيها حليب الإبل ، فشربا وناولا الشيخ فشرب.
وقال : لقد أوصيت العبيد بذبح شاة سمين لغذائكما وإعداد أقراص خبز الشعير في إنتظار ذلك بإمكانكما الإستراحة ،
لا شك أنكم سافرتم كثيرا في الصحراء وكما لاحظتم لا يوجد ماء.
إقرأ أيضا: الأخوين وقصر الفضة الجزء الأول
قال علي لم نسافر كثيرا لقد كنا في بستانكم الذي أخربه الجن.
تغير وجه الشيخ من الدهشة وقال : ماذا ذهبتم تفعلون هناك لا يوجد إلا الخراب والموت لمن يسوقه القدر إلى البستان.
قال علي : سأخبرك فيما بعد لكن أولا أريد أن تروي لي ماذا حصل لقبيلتك ، فالبؤس والحزن لا يمكن أن تخطئهم العين.
قال الشيخ محي الدين : إنها حكاية طويلة يا بني قبل سنة كانت قبيلتنا من أكثر العرب مالا وجاها ،
وكانت قوافلنا تجوب الأرض طولا وعرضا لبيع التمر والعسل والخمر والزبيب.
كل هذا كان من خيرات البستان الذي كان في يوم ما عامرا تفوح منه راحة الرياحين وتمرح فيه الطيور.
ولقد كانت هناك قبيلة كبيرة من الجن المسلم تسكن القفر الذي بجوارنا وكانت أرضها واسعة وفيها الكثير من آبار الماء ،
وعلاقتهم بالإنس هي علاقة ود.
مرات عديدة ظهروا في شكل نوق بيضاء للتائهين في الصحراء ، ودلوهم على الطريق ،
وكان من عادتنا أن نضع حليا من الصدف في الصحاري لنشكر الجن على معروفهم معنا ،
وكانوا يقبلون هدايانا وقد يتركون مكانها بعض القطع الذهبية.
كنا سعداء ، لكن في أحد الأيام تغير كل شيء ، سمعنا من بعيد قرع طبول وثار الغبار وشاهدنا مخلوقات بشعة المنظر تركب حيوانات تشبه الضباع ،
تهاجم قرى الجن المسلم وهي أكوام حجارة ممتدة على مساحة كبيرة ،
لكن لا نرى سكانها.
في ذلك اليوم ظهر الجن وقراهم بشكلها الحقيقي ، كان الجن المسلم كثير الشبه بنا ،
لكنهم أكثر طولا وقوة وعيونهم واسعة رمادية اللون ويجعلون شعورهم الطويلة ضفيرة واحدة.
لما رأينا ما وقع أخذنا سيوفنا وصحنا الله أكبر ودخلنا المعركة مع جيراننا من الجن وتسامعت بقية قبائل الإنس ،
فجاءت في خيولها وجمالها ورددنا بعون الله الهجمة القوية للمعتدين من الجن الكافر ،
وجاء سحرتهم ورموا في الهواء حفنة رماد فظهرت سحب كثيفة فوق رؤوسنا ،
وفجأة خرجت منها أسراب كبيرة من طيور غريبة الشكل كانت أقرب للأفاعي المجنحة منها للطيور.
إقرأ أيضا: ومن الحب ما قتل الملك الذي مات من أجل حب جاريته
وتصدر صوتا مزعجا أثناء طيرانها ، لم تفلح الحيلة في دفعها ومن إنقضت عليه نهشت لحمه ،
حتى كثرت فينا الجراحات وكرّ علينا فرسان الجن الكافر فتفرقنا في كل مكان ،
وأصبحت كلّ هذه المفازات والفلوات تحت أيديهم.
لقد خلقوا لنا أتفه الأسباب لتخريب بستاننا وغايتهم الحقيقية أن يضعف شأننا وتذهب قوتنا بعد ما شاهدوا بأسنا في الحرب والعقاب.
نال كل البدو الذين يسكنون حول هذه البرية ، فطمسوا الآبار وقطعوا النخيل ونشروا الأمراض في الإبل ،
وافتكوا كثيرا من أبناء الإنس وجعلوهم خدما الآن أصبحوا يحسبون لهم ألف حساب.
تذكّر علي خطيبته نائلة ، هي أيضا من اللواتي دفعن الثمن ، الأمر أصبح واضحا جدا الآن.
بعد سماع علي حكاية الشيخ محيي الدين ، وحكاية البستان قال علي حسنا لقد سمعت حكايتك وهي مدهشة جدا وحكايتي لن تقل عنها دهشة.
قال الشيخ : أثرت والله فضولي هيا أخبرني.
أجاب علي : لن أطيل عليك كثيرا لقد ذهبت إلى البستان واسترجعته من الجن.
إتسعت عينا الشيخ وقال هذا شيء ، لا يصدق لا أحد بإمكانه القيام بذلك.
أجاب كروان هذا صحيح يا سيدي لقد كنت هناك ورأيت ذلك بنفسي ، ومد له جرابا من التمر وسأله ،
لا شك أنك تعرف تمر بستانك.
تناول الشيخ محي الدين الجراب بيد مرتعشة وفتحه أخذ حفنة من التمر ونظر إليها ثم تذوق أحدها وقال :
هذا طعم تمرنا أعرفه من حلاوته وجمال لونه ، لكن كيف فعلتم ذلك؟
قال علي : لقد حاربتهم بسلاحهم : السحر
تسائل الشيخ هل عندك علم بالسحر؟
أجاب علي : لا يزال هناك الكثير لأتعلمه ، سيكون البستان ملكي على أن أدفع لكم كل سنة نصف غلته تصلحون به أمركم وتسترجعون تجارتكم.
قال الشيخ ألا تخشى الجن.
إقرأ أيضا: سر الغربان الجزء الخامس
أجاب علي لقد إنتصرت عليهم مرتين وأنا لا أخشاهم بإذن الله وسأعطي نصيبا لكل القبائل في هذه البرية ،
يجب أن نسترد قوانا للمعركة القادمة سنطرد هؤلاء الكفرة ونسترجع حريتنا.
وقف الشيخ وقال : أنا معك وسأراسل حلفائنا وكافة عشائرنا ،
لكن قبل ذلك سأستدعي وجهاء القبيلة لتنفيذ إتفاقنا حول البستان.
أرسل الشيخ في طلب القوم ولما حضروا قص عليهم ما حدث وهم يهزون رؤوسهم ويتعجبون ،
ثم قالوا : الرأي عندنا هو ما إتفقت عليه مع الغريب ونحن نشهد أن البستان لك ولأولادك من بعدك ،
وكتبوا له كتابا بذلك وستكون أسواق البلاد الغربية لتجارتك وتكون البلاد الشرقية لتجارتنا.
شكر علي الشيخ وأوصاه بأن لا تكون القوافل كبيرة بحيث تجلب الإنتباه وتنطلق من عدة اتجاهات لكي يعتقد الجن أنها تعود لقبائل مختلفة.
ما إن أتم علي مهمته حتى رجع إلى ديار قبيلة الشيخ حرب ،
عندما وصل إغتسل وتعطر ثم ذهب إلى خيمة الشيخ وعندما رآه فرح فرحا شديدا وهنأه على سلامته.
مد علي كتاب ملكيته للبستان وقال : هذا مهر نائلة كما وعدتك ولقد أصبح بنو عامر من حلفائنا.
بعد أيام سأذهب مع قافلتي للتجارة سأشتري لنائلة ما أجهزه بها لعرسها من حرير الصين وطرائف الهند وزجاج بخارى وسمرقند.
حمل علي الجمال بالتمر وصنوف الفواكه ، وسارت القافلة في طريق متعرج ليس فيه ماء ،
لكنه يختصر ربع المسافة فالفتى قتله العشق ولا يريد أن تطول الرحلة ،
وعندما توغلوا في تلك المفازة شاهد علي من بعيد شيئا يلمع في الأفق ،
ولما إقترب منه وجد خرائب مدينة عظيمة عليها قباب ذهبية فتعجب ،
وقال في نفسه : قضيت عمري في الصحاري ولم أكن أعلم بوجود أحد هنا.
وفجأة خرج له مجموعة من الرجال العمالقة ، فخاف وحاول الهرب لكنّهم قالوا له :
لا تخف فلا يغرنك ما ترى من حجمنا فنحن قلما نصادف ناسا يمرون بنا.
إحتار علي وقال : أسرار هذه الصحراء أكبر مما توقعته فالمظاهر قد تخدعنا أحيانا.
أجاب أحد العمالقة : سنحملك إلى شيخنا وسيحكي لك قصتنا.
أخذ الفتى معه أربعة أكياس من التمر والرمان والبرتقال ولما دخل على الشيخ سلم عليه وقال له : هذه هدية لك.
يتبع ..