صحوة إمرأة الجزء الأول
صحوة إمرأة الجزء الأول
كانت طفلة لا تعي شيئاً سوى المرح واللعب ، خاصة بيوم الإجازة الأسبوعية في الزيارات العائلية المتبادلة لمنزل عمها ،
فتقضي يومها كالنحلة النشيطة مع ابن عمها الذي يكبرها بضع سنين لتصل لنهاية اليوم منهارة القوى تتلهَّفُ لعناق الوسادة.
ومضت طفولتها لتكبر فجأة وتخفق ضربات قلبها نحوه ،
فقد رأته رجلاً بغمضة عين فباعدت المراهقة بينهما ليكتفيا بالجلوس والحديث كالكبار.
وذات مرة داعبتهما والدتها قائلة : إبنتي حليب ونادر شوكولا.
فردت أم نادر وهي تحاول كتم غيظها : وإن يكن فالرجولة كلها لذوي البشرة السمراء.
حرك ذاك الموقف فؤاد نادر نحو مها ، فلا ينقص الرجل صاحب الهمة سوى إمرأة جميلة تُكمِلُ رجولته أمام الناس ،
وما أجمل أن تجتمع الأنوثة مع القرابة!
فوضع هدف الزواج منها أمام عينيه ، وحتى عندما قُضِمَ ظهره بوفاة والده لم تثنيه تحمل مسؤولية أخيه الصغير إلى جانب أمه عن سعيه الزواج منها.
فأصبح يصل نهاره بليله في العمل ليعود آخر الليل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يغط في نوم عميق.
وعندما رأت أمه معاناة إبنها ، قررت العمل كمدبرة منزل وطاهية في بيوت الأغنياء ،
واستمر نادر في العمل بورشة تصليح السيارات التي ترعرع فيها.
وبعد مضي ثلاث سنين استعد لطلب يدها ، وحيث أن أبيها كان في بلاد المغترب لا يلقى ـبنتيه وزوجته إلا كل سنة بأشهر الربيع ،
طلب يدها من خالها وأمها ، فحلق قلبها بأرجاء صدرها وأقام احتفالاً مع أحشائها.
وبعد أن وافقت على طلب نادر وأمه أن تترك الدراسة ، حددوا موعداً لحفل الخطوبة ، ولضيق حاله المادي اكتفوا بخاتم صغير ،
فكان بعينيها يعادل ما يحتويه محل الصاغة فهو من حبيبها كامل الرجولة ذو البنية العضلية.
إقرأ أيضا: الطفل والإصبع الذهبي الجزء الأول
وبعد تمام الخطوبة بشهرين تم تحديد يوم الزفاف ؛
فارتدت مها ثوب أحلامها وبوجه الطفولة الأبيض كنقاء الغيوم صباح يوم ربيعي ضاحك ،
مع عينين ترقصان فرحاً بلون سماء زرقاء ، خطفت قلوب المدعوين مع أنظارهم ،
وكانوا يستهجنون تلك الزيجة اللامنصفة بحق الملاك البريء ،
فقد كانوا يعلمون أنها وقعت ضحية بين مخالب أم زوجها لأنها كانت تشتهر بالمكر ،
غير أن عشق نادر لها جعله ورقة بين يديها تشكّله كيفما تشاء.
بعد أن تحقق حلمه بوضع الدمية البيضاء في منزله أزاح جبل التفكير عن كاهله لتستبيح أمه استعبادها بذوق رفيع.
لم يمض أسبوعين على زواجها وبدأت أم نادر بإشعال لهيب المشاكل بينهما ، كثعلبة قديرة تحاول تأجيج الخلافات ببضع كلمات ،
بدون أن تُشعِر إبنها أنها تَحُضُّه على الخلاف مع زوجته ؛
كأن تعود إلى المنزل منهكةً آخر المساء وتغرق في المطبخ محاولة أن تنظف جدرانه وكأنها تريد أن تَخلُقَ لوناً جديداً له ،
مما يجعل نادر يشتعل غضباً من مها وينفجر بوجهها قائلا :
لو أنَّ أمكِ علمتكِ النظافة لما أُنهِكَتْ أمي من التنظيف داخل المنزل وخارجه.
لكن مها كانت تصمت والألم يعتصر حنجرتها من البكاء الصامت ، ورويداً رويداً تملَّك الحزن قلبها ولم تعلم كيف ستتعامل معهما ،
ليزيد أخا زوجها نهر دموعها ويطلب منها الطعام والشراب وغسيل ثيابه وكأنها جاريته ،
وبعد أن فاض بئر أحزانها لم تستطع كتمان ما أرهق قلبها فقررت اللجوء لأمها لعلها ترشدها لما تفعل ،
ولأنَّ أم نادر كانت قد قلَّصت الزيارات الأسبوعية لتجعلها شهرية بحجة عملها ،
ولرفضها القاطع أن يزور أحد منزلها بغيابها ، لم تجد مها أي فرصة للحديث مع أمها ،
فلم تجد منقذاً لها سوى أختها الصغيرة ، فبرغم أنها كانت تصغرها ببضع سنين لكن عقلها كان موازياً للبالغين ؛
فقامت بتشجيع مها على خلق شخصية لها أمامهم ولم تخبر أمها عما قالَتْهُ كي لا تصيب فؤادها بالحزن على حال إبنتها.
إقرأ أيضا: صحوة إمرأة الجزء الثاني
لم يعد يفارق لسان مها قولها الدائم لأم زوجها : فلتتركي العمل يا أماه كي تعلميني الأعمال المنزلية فمن الواضح أنك أمهر من أمي.
لتكتفي حماتها بالصمت بعد أن تقول لها : ألن تكفي عن ذلك؟!
فأنا لن أترك العمل لأن وضعنا المادي سيتدهور ، غير إن أتى ولد لإبني فستزيد الأعباء عليه.
مما جعل أم نادر تشعر أن مها ترغب أن توسوس لإبنها كي يفتعل المشاكل معها ويجبرها على ترك العمل ،
فازداد هوسها بافتعال المشاكل بينهما كي لا تجعل متنفّساً لمها مع إبنها ؛ وبعد أشهر من جلسات قمر لغسيل دماغ أختها ،
استطاعت أن تبدّل حالها كلياً فأعادت الروح للسانها الذي لم يعد يصمت عن أي شي تتصرف به حماتها ،
مما جعل الدم يغلي في عروق وجه نادر وخشية أن يكسر ضلعاً من ضلوعها بلا وعي ؛
كان يرميها بمنزل أمها كخرقة بالية وهو يقول لها تلك نتيجة تربية المرأة ،
لتعيدها أمها بعد بضعة أيام بكل ود ومحبة معتذرة عن ابنتها ، كي لا تهدِمَ منزلها وتحافظ على القرابة بآن واحد.
ولم يمضِ بضعة أشهر حتى حملت مها بأول مولود لها ، فقفز قلب نادر وحملها بين يديه حفاظاً على مشاعرها.
وكاد أن يقوم بأعمال المنزل كي يمنع أمه من إجهاد نفسها.
حاولت أمه كتم غيظها من تبدّل حال آبنها فكانت تطرق مسامع مها كل شهر قائلة :
أنا أريد ذكرا يحمل إسم إبني وأتمنى ألا تكوني كأمك تجلبين الإناث.
يتبع ..