صياد الحمام والوالي
صياد الحمام والوالي
لم يكن يعلم صائد الحمام ، الذي يعيش هو وأمه في كوخ طيني على أطراف قرية ، بما رزقته بهما السماء من خير ،
وأن سربا كاملا وقع في شباكه ، فلقد إعتاد أن يجر خطواته عند الفجر إلى الجبل حيث نصب شباكه ،
ليلتقط ما علق فيها من طيور قليلة ، ويحصل أحيانا أن لا يصطاد شيئا ، أو يجد في مصيدته عصافير صغيرة وفد إلتصقت ببعضها من الخوف ،
فيطلق سراحها ، ليعود خائبا إلى الكوخ ، فتصطدم عيناه المنكسرتان بوجه أمه.
وكان يضع كل يوم شباكه عند العصر ، وويرشّ عليها الحب ، وبتضرّع إلى السّماء لتعطيه رزقه.
ثم يعود لتفقدها في الصباح ، بعد أن يغادر فجرا كوخ أمه ، ويتسلق الصخور إلى أن يصل أعلى قمة في الجبل حيث شبكته.
ولمّا يرجع إلى الكوخ ، يرتاح بعد تعب الطريق الطويل والحر الشديد ، وتخرج أمه لسوق القرية تبيع وتقايض ما صاده.
وحين دخل عليها في ذلك الصباح ، ورأت الحمولة الثقيلة بين يديه ،
سطعت في ذهنها فكرة التي ستحول حياتهما إلى حال آخر ،
وقالت : لماذا لا تذهب يا بني ، بحمولتك الوافرة هذه لقصر الوالي ، وتقدمها هدية له ،
بدل أن نبيعها بثمن قليل ، لعله سيجود عليك بشيء تربح منه ، أو على الأقل ، يجد لك عملا عنده.
لقد كانت فكرة صائبة ، فلم يحدث من قبل أن وقع في مصيدته سرب كامل ، حتى أن الصياد احتار في إيجاد سلة يجمعها فيها ،
بدل القفص الصغير الذي كان يؤرجحه بين يديه وهو يعبر الطريق الصخري القاحل.
ثم ذهب إلى أحد جيرانه ، وقايضهم بأربعة طيور مقابل سلة كبيرة من سعف النخيل ،
بعد مسافة قطعها فوق ظهر أحد حمير الأجرة التي تقف متراصة في سوق القرية.
وصل إلى قصر الوالي ، لكن لم يدعه حرس الوالي الدخول ، وأشاروا عليه بالإنتظار لأن صّفا طويلا من الناس قد سبقه.
إقرأ أيضا: قصة شاب قال لن أصلي حتى تجيبوني على ثلاثة أسئلة
وحينما خرج الوالي لصلاة العصر ، وبرفقته ثلة من الجند ، إقترب الصياد ناحيته وأنزل السلة من ظهره ورفع عنها الغطاء.
لما رأى الوالي الطيور ثم أشار إلى أحد حرسه بأن يذهب به إلى مطبخه لتوضع في الفرن ،
وتقدم لعشائه ، ثم ودعه بتحية عابرة ، وأكمل طريقه إلى الصلاة ، وحين رجع لم يكلف نفسه حتى عناء الإلتفات إلى الصّياد الجالس بانتظاره.
بقي المسكين جالسا حتى حلّ المساء ، وأمره حراس القصر بالانصراف ، ولما إحتج بأنه لم يأخذ أجره ، طردوه ،
وقالوا له: ليس لك عند الوالي شيء ، فاذهب ، ولا ترينا وجهك بعد الآن!
ولمّا رفض أن يتحرّك ضربوه بقسوة ، وألقوا به في الطريق كالكلاب ، فنهض متألّما ، ونفض الغبار عن نفسه ،
ورجع مطأطئ الرأس ، يفكّر في أمّه التي تنتظره ، وحزن لمّا تذكر أنه ليس لهم شيء لعشائهم هذه الليلة ،
في حين سيأكل الوالي حتى يشبع من ذلك الحمام السمين ، والجميل اللون.
رجع الصّياد إلى كوخه في عمق الليل ، واستلقى بعينين مفتوحتين ،
وفي الصّباح هبّت أمّه إلى تاجر بالمدينة ورهنت عنده حلة ثمينة واشترت له ملابس جديدة ،
وطلبت من أحد الرّهبان أن يكتب لها رسالة للوالي من طرف رئيس حامية المدينة يطلب فيه ألف درهم لإصلاح السّور ، قبل مجيء السّلطان ،
وقالت له أدخل على الوالي وكأنّك رسول عاجل ، نفّذ الصياد ما قالته أمّه ، ومثل في حضرة الوالي ،
الذي أعطاه ما طلب دون أن يشك في أمره ، وحال مغادرته ألصق ورقه على باب القصر.
لمّا خرج الوالي لصلاة الفجر ، رأى الورقة ، فاقترب وقرأها ، فوجد مكتوبا عليها :
” الألف درهم من فعل صياد الحمام ، والعاقبة أشد “، فاشتد حنقه ،
وقال متوعدا : والله لو وجدتك لأكوينّ لسانك بالنار ، حتى لا تتجرّأ على أسيادك مرة أخرى.
إقرأ أيضا: إختفاء توم وأيلين الغامض
أمر الوالي معاونيه بالبحث عن صيّاد الحمام ، فحملوا أسلحتهم ، وداروا في القرى يسئلون كلّ عابر عن فتى طويل القامة ،
مليح الوجه ، تبدو عليه عزة النّفس رغم فقره ، ومضوا في الجبال والفيافي ، فانتشر خبرهم ،
وحين اقتربوا من قرية الصّياد ، سألوا إمرأة كانت تشعل حطبا في موقد عن الفتى ،
فأجابتهم بأنّه ينصب خيمتة على أطراف القرية ، ولكنّه إذا رأى أسلحتهم فإنّه سيهرب ، ولن يستطيعوا اللحاق به.
ونصحتهم أن يتركوا أسلحتهم وعتادهم عندها ، وبعودتهم يكون ما في قدرها قد نضج ، وستطعمهم منه!
بحثوا في المكان الذي أشارت إليه المرأة ، لكنّهم لم يجدوا أحدا ، وحين رجعوا إليها كانت قد إختفت ،
ومعها سلاحهم ، وليس في القدر سوى الحصى ، وهو يفور متراقصا أمام أعينهم الجائعة.
إلتفتوا حولهم ، فرأوا ورقة على أحد الأشجار مكتوب فيها : “هذا من فعل صيّاد الحمام والعاقبة أشد”.
ولمّا عادوا بالورقة إلى الوالي ، ضربهم بقسوة ، وأمر بحبسهم.
ثمّ جمع ثلة من الحكماء ، وطلب منهم أن يخرجوا للبحث عن الصّياد ، وإقناعه بأن يسلّم نفسه ،
وفي الطريق رأوا الأفلاج تسقي النّخل ، وكان الطقس حارا ذلك اليوم ، فخلعوا ملابسهم ، وعلقوها على نخلة ،
وذهبوا للسّباحة ، فتسلل الصياد ورائهم ، وأخذ ملابسهم وأموالهم ، وعلّق مكانها رسالة كتب عليها :
هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد.
بعد أن خرج الحكماء من الماء لم يجدوا شيئا ، فانتظروا حلول الظلام ،ثمّ جروا بسرعة في أطراف الأودية ،
وقد غطوا عوراتهم بأيديهم.
ولمّا علم الوالي بما حدث غضب من حمقهم ، وأمر بحبسهم عراة عقابا لهم.
وحين استعان بالمنجّمين ، اقترحوا عليه أن يطلق جملا ذو فراسة ، والموضع الذي يبرك أمامه سيكون بيت الصياد.
إقرأ أيضا: رسالة أمي الأخيرة على الثلاجة
رأى الفتى الجمل يقترب من القرية وعرف أنّه حيلة من الوالي ، فلوّح له بطعام ،
فأتّبعه حتى وصل إلى خربة مهجورة ، ثم ألقى له ما في يده ، فأكل الجمل حتى شبع ، ثم برك ،
ولمّا وصل المنجمون ، أطلوا داخل الخربة ، لكن الصياد جاء على أطراف أصابعه ،
وأغلق عليهم الباب ثمّ ساق الجمل وراح في سبيله.
بعد يومين تمكّن المنجّمون من الخروج ، وهم في حالة يرثى لها من الجوع والتعب ، فوجدوا على الباب رسالة كتب عليها :
“هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد “.
عاقب الوالي المنجمين عقابا شديدا ، وسمع كلّ من في القصر صرخاتهم ،
ولم يقبل أحد من أعوان الوالي بالخروج للبحث عن ذلك الصّياد.
وانتشر خبره في الأسواق ، فخشي الوالي أن يصل الأمر إلى السّلطان ، ويصغر في عينيه ، ربّما عزله لضعفه.
فأرسل المنادي في القرى يصيح : إنه أعطاه الأمان ، وسامحه في كلّ ما أخذه منه ، ويريده أن يأتي ليقصّ عليه حكايته.
وحين جاء الصياد إلى القلعة استقبله الوالي بنفسه ، ثم أجلسه بجانبه ، وعاتبه قائلا : لماذا فعلت بنا هذا أيها الصّياد؟
فأجابه : يا مولاي، لقد جازيت تعبي ومشقة سفري بالإحتقار ، وتقديمك على أهلي ونفسي بالمبالاة ،
وتركتني بدون سلام أو مقام ، وألقاني حرسك في الطريق ولم يسمعوا شكوى أو كلام ،
وأنت تعلم حال أمثالي ، وأنّهم ما يفعلون ما فعلته عن فيض زاد ورخاء حال ،
إنما طلبا لكرمك وتقرّبا من جودك ، فرجعت من عندك منكسر البال ، تسيل الدّمعة من عينيّ ، ويمور الحقد في صدري ،
فلم أحتمله حتى فار على النحو الذي رأيت.
ولم يشق عليّ أخذ قروشك حتى سلبت أعوانك ، وعرّيت حكمائك وفزت بناقتك ،
وكنت ماضيا فيما عزمت حتى أعلنت صفحك عني ،
فبالله ما ضرك لو مسحت راحتك بكفيلما قصدتك ، ووضعت ، فيها نقطة ممّا أنعم الله به عليك ،
أغني بها فاقتي ، وتعينني على بيتي؟
سال ذلك الكلام كالنغم في أذني الوالي ، واعتذر منه ، وقال : الحمد لله أن ساق إلي من فتح بصيرتي وأصلح إعوجاجي في الدنيا ،
قبل أن يسألني الله على فعلي في دنياي ، ثم أمر أن لا يرد محتاج ، ولا فقير ، ولا أرملة عن بابه ،
وأمر له بكسوة وفرس ، وجعله رئيس حرسه ، وأمين سره ،
وسبحان الله الذي يعطي من حيث لا نعلم.