ظننته لصا
ظننته لصا
لم تمنحني الحياة سوى التعب والشقاء في خدمة البيوت والمنازل الغنية.
فأنا أنتمي إلى الطبقة دون الأدنى في وسط مجتمع لا يعترف إلا بأصحاب المال والنفوذ.
عشت منذ صغري أرتحل من منزل إلى قصر.
ياخذني أبي دون أن يستشيرني ، لكي أكون خادمة ذاك المكان.
وفي آخر الشهر يعود أبي من جديد ، ليس ليطمئن على حالي أو يشتاق لإبنته البكر كي يجبر بخاطرها ،
ولكنه يرجع من أجل أخذ أجرتي الشهرية ثم يعود أدراجه ، وأنا أبكي وأتوسله كي يأخذني معه ،
فلقد كنت أشتاق لإخوتي وكثيرا لوالدتي.
ولكن عبث ، كان يعشمني أنه سيعيدني بعد إتمام آخر أيام الأسبوع ،
ولكن أسبوع بعد شهر وراءها سنوات وأنا أنتظر والدي كي يخرجني من الجحيم الذي أعيش فيه.
حتى أخرجت الفكرة من رأسي ، وتقبلت أن أرى عائلتي في الأعياد فقط.
كبرت ونضجت ما يكفي حتى أحمي نفسي من تقلب ميزاجيات الذين أعمل عندهم ،
منهم من يثمل ويلقي كل تفاهاته وأوساخه علي ، ومنهم من هو مريض نفسي كالوسوسة والشك بأن أكون مثلا سرقت بعض أغراضه حتى يجدها بنفسه ليتأكد أته أخطأ بحقي.
ومنهن من تتهمني بخيانتها مع زوجها بسبب غيرتها المفرطة ،
ومنهم من يقوم بالتحرش علي ويرمي الأخلاق والتربية عرض الحائط.
حتى مللت من كل هذا فقد طفح الكيل ، ولم أعد أقوى على خدمة القلوب المريضة.
فقررت الهروب والعيش بكرامة ، حتى وإن بدأت من الصفر لأعيش في بيت بمفردي.
أول شيء قمت به هو ذهابي لسوق الذهب حتى أبيع القلادة التي منحتني إياها عجوز قمت بخدمتها ذات يوم.
إقرأ أيضا: تظل السماء رمادیة وخالیة
فقبل موتها أهدتني إياها عربونا على شكرها لي ، لأنني لم أفرط في تلبية قضاء حوائجها دون تذمر أو كلل ،
وجعلتني أخبئها عن أعين أولادها ، خاصة من إبنتها الشنطاء التي رفضت أن تعتني بوالدتها وهي تمر بظروف صحية خطيرة.
وأنا أقترب من السوق ، وإذ فجأة شخص غريب ملثم يعانقني ويحتضنني بقوة ،
يهمس في أذني أن لا اخاف وأن لا أثير ضجة.
صعقت وخفت لو أصرخ سيدخل السكين في صدري.
وقبل أن أخرج القلادة من جيب حقيبتي كي أمنحها له دون أن يقوم بأذيتي ،
إذ بي أسمع بلبلة من خلفي ، ثم مجموعة من الحراس يركضون ويمرون بجانبنا ، وهم يشيرون بأصابعهم ،
إنه للتو مر من هنا حتى غابوا تماما.
فأدركت أنهم يبحثون عن الذي ما بين أحضاني الأن.
بعدها إعتذر الملثم ، فألقى قبلة سريعة على خدي ثم شكرني ورحل ، وهو يلوح بيده نحوي.
كنت حينها متسمرة في مكاني ، ولم أستفيق من ذهول الموقف حتى أرى الشاب يكاد يغيب عن أنظاري ، فاستشطت غضبا منه.
فمن يظنني المغفل حتى يقوم بفعلته هذه.
تتبعت وجهته ولحقت به راكضة ، ولم يرني حتى فاجأته من الخلف أمسك بذراعه وأنا أوبخه من يحسب نفسه؟
وكيف سمحت له أن يتعدى على حرمة الناس ، ويلمسهم ويقبلهم أيضا دون إذنهم.
فاستغربت من هدوء ذلك الفتى وهو يبتسم وينظر لي باستخفاف ، مما زاد من إستفزازي وغضبي منه.
فطلبت منه أن يحدثني كرجل بدلا أنه يخفي وجهه كالنساء ، ويبعد اللثام عن وجهه ، ونصحته أن يعيد ما سرقه ،
وإلا سأصرخ وأنادي على الحراس ليمسكوه. ويسجوه بالسجن.
فتعالت ضحكات الفتى حتى كادت أن تضيق أنفاسه.
فأزاح اللثام حقا عن وجهه ، فاندهشت مما رأيته ، لم أظن قط أن اللصوص بهذه الوسامة.
إقرأ أيضا: أخت تفضح أختها
فتلعثم لساني عن الكلام ، وغاب الصوت الخشن بتهديده ووعيده ،
ولم أجد نفسي حينها إلا ونحن محاطان بحراس كثر وهم ينحنون للشاب فردا فردا وهم يرددون سيدي لقد خفنا عليك.
فانزعج الشاب ، وأخبرني إن أعجبني باكتشاف أمره.
طأطأت رأسي أثناءها ، وأحسست بالأسف نحوه ، وأردت أن أعتذر له ، ولكنه لم يمنح لي الفرصة.
فغادر والحراس تتبعه ، وإثنان منهم سبقوه.
وكأنه وضع بالفعل في سجن تنفيذي على الهواء ، ولكن لحظة ، لماذا نادوه بسيدي؟ ما الذي يحدث بحق السماء؟
في ذلك المساء بعت القلادة بمبلغ لا بأس به ، واستأجرت غرفة في أحد الفنادق المزرية ، حتى أجد منزلا مناسبا لي بعدها.
ففكرة رجوعي إلى منزلنا مرفوضة البتة بداخل عقلي ،
فانا لا أريد أن أكون لعبة عرائس لوالدي مرة ثانية ، يتحكم بها كما يريدها أن تكون.
وكما توقعت ، كانت الغرفة لا تليق أن يعيش فيها الجرذان ، فما بالك بإنسان.
الرائحة كريهة جدا ، وأغراضها كلها بالية ورثة ،
ولكن الجميل في الموضوع أن مكان الفندق يقع في وسط غابة صغيرة مليئة بالخضار ومجاري مياهها تنبع من بحيرات ووديان خلابة تعيد الروح من غربتها.
في الغد أردت أن أستنشق الهواء العليل بعد أن ضاقت أنفاسي طيلة الليل ، فذهبت لاستكشاف روعة المكان.
توغلت قليلا في الغابة ، حتى وصلت لبحيرة أردت أن أغسل بها أطرافي ، وان كانت صالحة للشرب سأرتشف منها القليل.
ولكن تفاجأت وتفاجأ هو نفسه بحد ذاته ، بوجود شخص لم أتوقع أن أجده مرة بهذه السهولة والسرعة.
هذا أنت؟
أهذه أنت!؟
سألته لحظتها كيف فر ثانية من كل ذلك الحرس؟
إقرأ أيضا: قطة الرماد الجزء الأول
فأجابني ببرود كعادته أنه فعل ذلك بسهولة كسابقتها.
كان ينظر إلى بعيد في الفراغ وهو يسألني لما فتاة شابة مثلي تجول المكان بمفردها دون خوف؟
فما كان ردي سوى إن كان قصده عن الحيوانات المفترسة فهي لا تخيفني قدر ما يخيفني غدر الإنسان.
فتبسم الفتى وصمت قليلا ، ثم أردف يقول أنه يظهر علي أنني عشت حياة قاسية حتى تنحى الخوف من قلبي ،
وصمتي حينها كان ردا صريحا عن إستعلامه وتكهناته.
فتمم بكلامه المبهم بأننا نعيش غصبا عنا عما نحلم به ونتمناه ، وكأننا نساق لنيل رضا غيرنا.
وأنفسنا تنتظر حتى ترى منا متى سنلتفت إليها كي نرضيها ، ونخاف أن نصارحها أن الوقت فات على ذلك.
فاستغربت كيف للص أن يقول كلاما عميقا كهذا ، وهدوئه ورزانته شككتني أن يكون كذلك.
فطلب مني أن أحدثه عني نفسي ، وما قصتي بالضبط.
وكأنه فتح لي بابا واسعا كي أدخل منه وألتجئ لشخص أخيرا حتى وإن كان غريبا ، يسألني فقط عن نفسي.
مرت أيام وأيام ولم يتوان الفتى قط ولو ليوم كي يقدم للفندق ويسأل عن أحوالي وأوضاعي ،
بعد ما قصصت له عن كل حكايتي.
وإهتمامه بي بعد ذلك لم أفهمها منه ، هل هي شفقة وإستعطاف ، أم أنه شعر بشيء نحوي كما فعلت أنا؟
حتى ذات يوم دق الباب على غرفتي ، وعند فتحه قدم لي صاحب الفندق مفتاح كبير موضوع على صينية نحاس بها رسالة ،
وانحنى لي كي ألتقطها منه وهو يقول.
سيدتي الفندق أصبح ملكا لك من الأن وصاعدا.
ظننتها مزحة منه في تلك الأثناء ، حتى أثبت لي العكس بعقد الملكية المكتوب على كنيتي وإسمي.
صعقت لحظتها وأنا أمسك بالرسالة ويداي لا يكادان أن يفتحاها لأقرأ محتواها.
هي حقيقة صدقي ذلك عزيزتي ، الفندق أصبح من الأن ملكا لك ،
وسيرمم من الغد حتى يكون وضعه أحسن من ذلك.
إقرأ أيضا: قصة الكلمة الجارحة
قومي بترتيبه وتزيينه على طريقتك ، ضفي لمستك الأنيقة عليه ، وبعدها قومي بإستضافة الاشخاص المناسبة للمكان الجديد.
أما عن تهمتك لي باللصوصية فأنا لست كذلك ، بل أنا لص لبضع السويعات حتى أمنحها لنفسي فقط.
فأنا يا عزيزتي أكون في حقيقة الأمر سوى إبن سلطان المدينة.
إبنه الذي تمنى من قلبه أن يكون إنسانا حرا مثلك حتى ولو عاش ما عشته تماما.
فهناك حياة صدقيني أسوء مما رأيتها بكثير في حياتك كلها.
وفي الأخير ، سأجيبك عن سؤالك الذي يدور في خوالجك.
نعم أحببتك كما أحببتني وأكثر ، ولكن هذه الفترة سأغيب فيها عنك.
قد تطول أو تقصر المدة على حسب الظروف ، تمني لي فقط من قلبك أن أعود بسلامة.
وداعا إنتبهي على نفسك ، اللص الذي أحبك بكل جوارحه.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر ذاك اللص الذي سرق قلبي بدون رحمة كي يعيده إلى جسدي ولم يعد.
فرغم المال الوفير الذي أصبحت أجنيه من الفندق ، وعودة عائلتي للعيش معي ، إلا أنني مازلت أفتقده ،
وأفتقده بكل قوة مشاعري التي تطلبه بإلحاح شديد.