عام بعد عام
توفيت زوجته بعد أربعة وثلاثين عاما ، سبعة أولاد وابنتان وثلاثة عشر حفيد ، جاءت تعزيه إبنة عمه الذي زوج إبنه لأحد بناتها ،
فقبل التعازي كعادته منكسا رأسه وهو بكامل صمته وحيائه.
حتى أنها قالت لحفيدتها ذات ليلة سائلة إياها عن أحواله : لا أدري لم كرهني فجأة بعدما كانت البسمة لا تفارقه حين يراني ،
كنت أكره زوجته لأنها سرقت مني أخي الكبير واغترب معها حتى عاد وكأنه لم يكن يعرفني!
فكان رد حفيدتها متعجبة : غريب!
فأنا أراه دوما يحادث بنات عمه وأخواله وقريباته بروح مرحة ،
وكما أنه يسألني كلما زرته عنك على رأس القائمة ، أظنك يا جدة تبالغين.
بعد عامين وهي في الحج بجوار زوجها السبعيني ، ظهرت على الشاشة بحضور الحفيدة ،
فقفز فرحا من مكانه وهو يقول كما الطفل الصغير لحفيدته ها هي شما مقربا إصبعه من شاشة التلفاز ،
ثم قام بتسجيل المشهد ، وكلما حضر أحدهم أراه المقطع المصور وكأنه قد عثر على كنز عظيم.
توفى زوجها ، فذهب معزيا لبيت العزاء ولم يقرب بيتها حتى إنقضت الأربعون ،
إذ حمل حقيبته الجلدية وارتدى نظارة القراءة وزار بيتها مساء ،
ولحسن حظه أن البيت كانت مليئة بالأحفاد الصغار واليافعين.
جلس أمامها على الكنبة ، وقال معزيا : لله ما أعطى ولله ما أخذ رحمه الله ورحمها ورحمنا بهم إذ كنا لهما زوجين صالحين.
قالت وهي تهز رأسها : إنا لله وإنا إليه لراجعون.
صمتت قليلا فرفع نظره إليها ، فنظرت نحوه والمقال الذي لا يليق بالمقام حضر على شفاهها وقالت ببراءة : وأخيرا ، رفعت بصرك إلي!
ظل بنفس جلسته لكنه عاود تنكيس رأسه للأسفل ، فأتبعت : في خاطري سؤال عالق بشما الصغيرة ، أيمكنني قوله؟
إقرأ أيضا: في ليلة زواج إحدى الفتيات حصل ما هو غير متوقع
رفع ظهره للأعلى وكتف ذراعيه وقال وهو يحدق بها : لم تكن شما الصغيرة تستأذنني بشيء ، فلم تفعلين؟
قالت : حين كان حسين ذلك الذي يهتم بها ويحادثها ولا يقطعها ويحضر لها الفستق السوداني كلما حضر ودفاتر التلوين.
إبتسم ونظره لم يتزحزح عن وجهها بينما كانت هي بقمة إنفعالها فتابعت قولها بعد ضحكته : نعم نعم ، لا تضحك.
حين كنت حسين الذي بمثابة أخ كبير لشما كانت شما لا تستأذن ، لكنك تغيرت كثيرا حين تزوجت ،
سرقتك الغربة وزوجتك وتركت الطفولة تغيظ بشما وتبكيها وتثير الأسئلة التي تسهد عينها وتجعل كل فرحة لها ناقصة لا تكتمل ،
حتى أجبرتها أن تستحضرك في لحظات خلوتها وتحادثك وتضحك وتدور وحدها كالمجانين.
نكست رأسها بحزن وهو لا يزال ملتزما صمته ونظره موجها لها ثم قال : أأنهيتي !
فقالت بذات شقاوتها طفلة : والله يا ابن عمي في قلبي عليك عتب كبير ، لكن لربما صار الوقت متأخرا على أحلام الطفولة ،
والحياة أشاحت عنا وشاح المشاعر وما عاد لنا الحق بالعتاب.
تنهدت بقلة حيلة وقالت : كنا صغارا وها قد كبرنا.
فقال مقاطعا : قد أكون ، لكن أنت لا.
فقالت وملامح الإرتبكات تشرق ببطء على وجهها : بربك.
أنظر كيف بتنا عاجزين ، إذا مشيت خطوتين أتعب ، والشيب والتجاعيد عبثا بي حتى لصرت أشبه ،
فقال معها بصوت واحد : المطاطة المهترئة.
إنفجرت ضاحكة باستغراب وقالت : أولا زلت تذكر !
ضحك وقال : لم إسمه غزل البنات وليس غزل الأولاد!
البيت المهجور ورحلات إستكشافك فيه ثم خروجك وأنت تصرخين لتصفين لي الوحوش بالداخل وأشكالهم.
“الغول” ، و”أبو رجل مسلوخة” ، و” الأميرة النائمة”.
تمثيلك بأنك تسيرين أثناء نومك ، دبس التمر والسمسم ، وأوراق البريد والطوابع.
إقرأ أيضا: لا تبحث عن الكمال في علاقة أو شريك لكي يكملك
فطيرة العشب التي كنت تعدينها لي على أنك قد جهزت لي الغداء ، الطبشور والحجلة والقطة العمياء والطائرة الورقية.
أنا لم أنس شيء يا شما.
كانت ترفع حاجبيها ونظراتها ترقص فرحا بينما وجهها تورد بالكامل لكثرة الضحك فقال :
ويلك يا حسين ، بحق يعني لم تنس شيء!
قال مكملا : الفساتين واسعة الطرف ، جديلتك الشقراء التي كنت تضربيني بها حين أزعجك تارة وتارة أخرى تخنقيني بها ،
والدوران أمامي حين تأتي أغنية على المذياع لأصفق لك بالنهاية ،
أعواد القرفة التي كنت تقضمينها كما هي ، وحتى ذاك الأرنب الأسود الذي كان يزعج أرانبك البيضاء ، لا أزال أذكره.
إن كنت قد نسيت شيئا في كل هذه السنين ؛ فهو نسياني لنسيانك!
إعتيادي على وجود أطفال بحياتي لا يحملون ملامحك.
تقبلي فكرة كونك لست معي!
يدك تحكم قبضتها على يد رجل غيري !
(كانت ملامح وجهها الخجلة التي شرقت في غروب حتى بات وجهها مصفرا بذهول.)
حاولت أن أطيع العائلة، وأن أحتفظ بشعوري لنفسي ، قلت بالبداية ” حين أسافر سأنسى” ولكني فشلت.
ثم قلت بعد تمام زواجك حين أخطب ، ثم حين أتزوج ، ثم حين أنجب ، لكن فشلت ،
فشلت مرة واثنتين وألف ، حتى كرهت مقاومة نفسي والنفاق والكذب.
رفع كتفيه بقلة حيلة وصحب ذلك نظره الذي تعلق بالسقف كأنه يبحث عن شيء ما ثم قال ببطء :
لم تك تشبهك بشيء مطلقا ، قوية وجبارة ، صوتها مرتفع وكثيرة التوعد والرد ، وخائنة.
إقرأ أيضا: قصة العيش والملح
لم أحقد عليها فأنا أكثر من يدرك معنى أن تظل عالقا بشخص ما ، لكني لم أستطع أن أظل معها ،
لذلك طلقتها ولم أخبر أحدا عما كان بيننا لأجل الأولاد فاتخذت شقة مجاورة وعشت أقاوم ذكراك ،
أصلي وأدعو الله ليلا ونهارا أن يرزقني يوما ،
يوما واحدا معك ثم أموت.
قالت وهي كما المخدرة بلا أن ترمش : لكن !
فقال باضطراب وقد نزل على الأرض وهو يفتح حقيبته ويخرج منها صورها ولوحات قد حاول فيها رسمها ،
ورسائل لها قد خطها ويضعها أمامها على الطاولة ، وكأنه يعرض أدلة ل”لكن” أنها ليست بمحلها :
لكن هذه الصور أبرأت عيناي!
هذه الرسائل كلها ، وهذه اللوحات ، لم تخطها لغيرك يداي!
تسللت دموعه من أحد مقلتيه ، ثم تتابعت وقد صمتا الإثنين بعجز ، فاغرورقت عيناها بالدمع ،
وحين سقطت أولاهما قال وهو يصر على أسنانه ويغمض عينه هازا رأسه رفضا : لا ،
شما لا يبكيها حسين.
حاولت كتم دموعها ومسحها بشاشها ، فقال : لا أولياء لنا ليفرقوا بيننا الآن ، فبربك أريحي قلبا أضناه الحب أربعة وثلاثون عام ،
وقولي نعم ، فها أنا أعرض عليك الزواج لنظل ما تبقى لنا من عمر معا.
فقالت والبكاء يلعثمها : لكن الآن.
ماذا تقول الناس عنا، عاشقين إنتظرا زوجيهما ليموتا ثم عادا.
قال بغضب وقد ضرب الطاولة : كفانا جبنا ، لن أضيعك لأجل الناس مرتين ، لقد خفنا الله دهرا ،
وصمت طوال الوقت حتى عن رفع وجهي لوجهك لكني اليوم لن أغادر هذا المكان إلا ورأسك على هذا الصدر الذي أذابه العشق ،
حتى إلتصقت أضلعه بأفئدته وتلاشى أنين نبضه فيك.
فقالت : لقد قبلت ، والله يشهد أني ما عصيته قط ، لكن شما أيضا لا تبكي حسين ،
وورب هذا النبض الذي ظننته قد شاخ أشعر الآن أني عدت لطفولتي وكأن كل ما كان ما كان.