عزم قوم من أهل الثراء في بلاد الشام على الحج
عزم قوم من أهل الثراء في بلاد الشام على الحج فأرادوا أن يصحبهم من يقوم على خدمتهم ،
فأشاروا عليهم برجل خدوم طباخ خفيف الظل لم يحج ،
فعرضوا عليه أن يصحبهم ويخدمهم فيصنع طعامهم ويقضي حوائجهم وتكون أجرته الحج معهم.
فوافق فرحا بهذا العرض السخي ، وكان الحج من أمانيه التي حال بينه وبينها الفقر ، وكم في المسلمين من نظرائه!
عندما وصلوا مكة إستأجروا بيتاً وخصصوا فيه حجرة تكون مطبخا وبدأ الخادم بالعمل جاداً فرحاً ،
وفوجئ ذات يوم وهو يدق بالهاون (وهي آلة تدق بها الحبوب القاسية )
أن الأرض تُطَبْطِبُ وتهتز وتوحي بأنّ شيئا مدفوناً في قعرها ، ودعته نفسه أن يبحث عن المُخبَّأ فلعل رزقاً ينتظره في جوف الأرض ،
وكانت المفاجأة السعيدة : كيسٌ من الذهب الأحمر في صندوق صغير من الحديد ،
إلتفت يمنة ويسرة لئلا يكون أحد قد اطلع على الرزق المستور.
وبعد تفكير رأى أن يعيده مكانه حتى يأذن القوم بالرحيل فيأخذه معه ، ويخفيه عنهم ،
وبدأ مع تلك الساعة سيل الأفكار والأماني، ماذا يصنع بهذا المال وكيف سيودع أيام الفقر والحاجة ،
ولكن الإنسان كما وصفه الله (وإنه لحب الخير لشديد) العاديات : ٨
لما أذنوا بالرحيل جعل الصرّة بين متاعه وحملها على جمله وأحكم إخفاءها وخبرها ،
وسار القوم وصاحبنا لا يشعر بمشقة السفر ولا بالضيق من بعد الطريق ،
والأماني تحوم حول رأسه والخوف الشديد يحاصره شفقة على المال من الزوال.
عندما وصلوا منطقة قرب تبوك نزلوا ليرتاحوا ، ونزل صاحبنا وبدأ عمله المعتاد في الخدمة والطبخ ،
وفجأة شرَدَ جمل الخادم بما حمل ، فتسارع القوم لردّه وكان أشدّهم في ذلك صاحبه.
ولكنّ الجمل فات على الجميع ولم يدركه أحد فعاد الناس بالخيبة ،
وتأثر الخادم حتى بلغ الأمر حدّ البكاء الذي لا يليق بثبات الرجال.
إقرأ أيضا: قصة إسلام العالم الرياضيات الأمريكي جيفري لانج
لما رأى أصحابه منه هذا الجزع طمأنوه ووعدوا أن يضمنوا جمله ويعوضوه خيرا منه وخيراً مما عليه ،
لكنه أبدى لهم بأنّ عليه أشياء لا يمكنه الإستغناء عنها وهدايا وتحفا اشتراها من مكة والمدينة لأهله ، وهذا سبب حزنه ،
لكن القوم لم يلتفتوا لما أصابه وطلبوا الرحيل لمواصلة المسير والتعجّل إلى الأهل ،
ورَضخ مُكرهاً لطلبهم وسار معهم حتى وصل بلده مغموما من ذهاب الذهب وفقدان الأمل.
في العام الذي يليه رغب آخرون من الأثرياء الحج وسألوا عمّن يرافقهم ويقوم بخدمتهم فأوصاهم الأوّلون بصاحبنا ومدحوه لهم ،
وأثنوا على عمله خيرا ، وفي طريقهم للحج نزلوا منزلاً قريباً من المنزل الذي فقد فيه صاحبنا جمله.
ولما ذهب لقضاء حاجته مرّ ببئر مهجورة فأطلّ فيها فوجد في قاعها أثر جمل ميت فنزل والأمل يحدوه أن يكون الجملُ جملَه ،
فوجده بالفعل ميتا قد بليت عظامه وأما المتاع وكيس الذهب بحاله لم ينقص منهما شيء ،
أخذ الذهب وأخفاه وعادت إليه أفراحه وأمانيه ،
وسكن مع أصحابه في البيت نفسه واتخذ من الحجرة التي خصصت له مطبخاً ورأى أن يعيد المال إلى مكانه ريثما ينتهي الحج فيأخذه مرة أخرى.
في تلك الأيام جاء رجل هِنْدي لعله صاحب البيت وطلب أن يأخذ شيئاً من البيت فأذنوا له ،
فدخل حجرة صاحبنا وقصد إلى موضع الصندوق فحفر ثم أخرج الصندوق ،
كان الخادم ينظر إليه وهو في غاية الذهول ، فلمّا رآه قد عثر عليه وأخذه إستوقفه قائلاً له ، ما هذا الذي أخذت؟
قال الهندي : ذهب كنت خبّأته في هذا الموضع من سنين وقد احتجته اليوم وجئت لأخذه.
لم يتمالك صاحبنا نفسه أن قال للهندي : وهل تعلم أن مَالَكَ هذا قد وصل إلى أطراف بلاد الشام ،
ثم عاد إلى هذه البقعة لم ينقص منه شيء.
قال الهندي : والله لو طاف الأرض كلها لعاد إلى مكانه وما ضاع منه شيء لأني أزكيه كل عام لا أترك من زكاته شيئا ،
واستودعته ربي فمن إستودع ربه شيئا حتما أنه سيحفظه له والله يحفظه لي.
قلت : إن كان المال وهو جزء منفصل عن صاحبه قد حفظه الله بتزكيته!
فكيف بتزكية النفس ! وتزكية اللسان ! وتزكية العلم !
( اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها )