عمي وليد شقيق أبي وعمي الوحيد ، بعد وفاة جدي بأيام قليلة نشب بينهما نزاع لم ينجح أحد في حله ،
رغم تدخل الكثيرون للصلح بين الإخوة.
إلا أن أبي وعمي رفضا كل محاولات الصلح ، في النهاية إعتدى كل منهم على الآخر حتى سالت دماء الإثنين!
بعد هذه الحادثة بأيام قليلة جمع عمي متاعه وقرر مغادرة حيينا تماما ، مدعيا أنه سيذهب إلى أقصى الأرض بعيدًا عنا.
لأنه لا يحب أن يرى وجه أبي ، فعلى حد قوله لقد أكل والدي ميراثه وقطع الرحم التي كانت تجمع بينهما يوما ما.
في يوم رحيله أذكر أنني كتبت خطابا طويلا لريما إبنة عمي ، رفيقة دربي وتوأم طفولتي.
أخبرتها أنني لن أنساها أبدا وأنني أحبها أكثر من أي أحد في العالم ،
وأكره أبي وعمي لأنهما بعنادهما تسببا في إنهاء حياتنا معا.
لم تكن ريما مجرد قريبتي فقط ، كنا نأكل سويا ونلعب سويا ونتبادل إرسال الخطابات تقليدا منا للشباب الكبار ،
حتى مقعد الدراسة كنا نتشاركه معا لأنها تأبى أن تستقر في صفها وتأتي يوميا إلى صفي رغم أنني أكبرها بأربع سنوات.
كنت في الخامسة عشرة من عمري يوم رحيلها من الحي ، حينها منحتها الخطاب الأخير ،
وأخبرتها لآخر مرة أنني أحبها كأختي وأنني لن أنساها أبدا ،
لم تعلق بشيء فقط قالت لي عندما نكبر سنلتقي إياك أن تتزوج!
تجاوزت الثلاثين من عمري ، بحثت عن ريما بحثا إستنفذ وقتي ومجهودي وطاقتي ،
قرابة عشرين عاما وأنا أجوب الأماكن بحثا عنها.
كلما قررت الزواج باغتني صوتها المرتجف يوم وداعنا سنلتقي ، إياك أن تتزوجي.
في النهاية تزوجت ، إنتظارها بات سخافة في سخافة وحمق في حمق!
أنا أيضا أنجبت ريما ، طفلة كالقمر توفت أمها أثناء ولادتها ، ثم بعد أشهر قليلة توفى أبي.
لحظة وفاته بكى كثيرا واستحلفني أن أبحث عن عمي وأن أرد له حقه ، وأن أستحلفه كي يغفر لأبي!
أووووه يا أبي لماذا لم تفعل أنت هذا؟ أكان لازما أن يباغتك الموت حتى ترد له حقه؟!
إقرأ أيضا: قصص نجاح
وبدأت دوامة البحث من جديد ، أبي يعذب في قبره الآن ، شئت أم أبيت لابد أن أعثر على عمي ، من أجل أبي ومن أجلي ،
من أجل “ريما”!
ترى هل ما زالت تذكرني ، بالتأكيد فقدتني في زحمة حياتها ، بالتأكيد تزوجت ولديها أبناء في عمر ريما إبنتي وربما أكبر بقليل.
بعد ثلاث سنوات كنت أمام الكعبة أحمل صغيرتي على كتفي وأسأل الله أن يرحم أبي وأن أتعثر بريما وأبيها.
وبينما أنا أصلي إذ بريما الصغيرة تهبط من كتفي لتستقر بحجر إحدى النساء المصليات إلى جانبي ،
تناهي إلى مسامعي صوت ضحكات ريما وحديثها المتلعثم الممبادل مع المرأة.
لم أشأ أن أقطع سعادتها تركتهما يلعبان قرابة النصف ساعة ،
كنت ممتنا لصنيع المرأة فابنتي حرمت من وجود أمها منذ لحظاتها الأولى في هذا العالم.
لم أتمكن من تبين ملامح المرأة بشكل كامل لكن لا أدري لم يراودني طيف ريما ،
حاولت أن أسألها من تكون لكن توتر الفتاة حال بين ذلك في النهاية شكرتها وانصرفنا.
بعد دقائق كنت أعود أدراجي إلى نفس المكان ، عقدت العزم أن أسألها من تكون ،
كنت أدعو الله جاهدا أن ألتقي الفتاة مجددا وألا يصرفها من مكانها حتى أصل إليه.
مشاعر متخبطة تدفعني للإحساس بأنها ريما ، إبنة عمي ورفيقة طفولتي ، ومشاعر أخرى تدفع عني التعلق بأمل ضعيف مفقود!
إسمي ريما بعد وفاة جدي بأيام قليلة تصارع أبي وعمي صراعا لم يحدث مثله بين أخوة ،
في النهاية قرر أبي رحيلنا من الحي لأن وجوده هنا يذكره بظلم أخيه له.
كانت حياتنا صعبة ولم تكن الظروف في صالحنا يوما ما ،
كلما قررت الدعاء على عمي تذكرت إبنه حسام ، فتاي الأول ورفيق طفولتي.
كيف لرجل قاس صلب جشع كعمي أن ينجب فتى طيبا رقيقا كحسام؟!
يوم رحيلنا من الحي كتب لي خطابا لازلت أحتفظ به حتى الآن ،
تواعدنا على اللقاء عندما نكبر ، لكننا كبرنا ولم نلتق!
لم يغب عن خاطري لحظة ولم أتجاهل يوما أن أبحث عنه.
إقرأ أيضا: 10 سنوات حافي القدمين حزنا على زوجته
ترى هل تزوج أم أنه لا زال مثلي يرفض الزواج بأنثى سواي.
أوووه بالتأكيد نسيني في زحمة مشاغله ، بالتأكيد لديه زوجة وأبناء الآن ولا يتذكر حتى أنا كنا نعرف بعضنا ذات يوم!
توفى أبي ، لكن لحظة وفاته استحلفنا بالله أنا وأخي أن نبحث عن عمي ، وأن نخبره أن أبي سامحه وأنه يبرأه من حقه.
إذ كيف له ألا يسامح أخاه الوحيد ، وكيف له أن يقابل ربه برحم مقطوعة كان هو السبب في قطعها ،
يوم أن قرر مغادرة الحي وقطع كل سبيل من شأنه أن يوصله بعمي.
أوووه يا أبي ، لماذا لم تفعل
هذا وأنت على قيد الحياة ، أكان لزاما أن يباغتك الموت حتى تسامحه؟!
وبدأت دوامة البحث من جديد لم نتوان لحظة في العثور على عمي من أجل أبي القابع في قبره ومن أجلي ومن أجل حسام!
بعد حادثة بتر للقدم تعرض لها أخي ، قررنا الذهاب إلى مكة ، ربما هناك تستريح أرواحنا المتعبة ، وتهدأ نفوسنا المضطربة.
وذات ليلة وبينما أصلي أمام الكعبة إذ بفتاة صغيرة تستقر في حجري ،
لم أفهم نصف كلامها المتلعثم لكنني أحببتها ، يبدو أنها بلا أم فقررت أن تمارس طفولتها مع أول سيدة تتعثر بها.
سألتها عن إسمها فأجابتني ريما ، دق قلبي في عنف ولا أدري لم راودني طيف حسام!
ظلت تتلاعب معي لنصف ساعة كاملة ، في النهاية شكرني والدها ، قررت أن أسأله عن إسمه ،
لكنني حتى استحييت أن أنظر في وجهه لأتبين ملامحه!
هو الآخر حاول أن يقول شيئا ما لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
شكرني مجددا ورحل ، ظللت أتابعه ببصري حتى تاه في زحام المعتمرين!
بعد ثوان كنت أقف بغرفتي في الفندق أبدل ملابسي لكنني بعد ثوان أخرى كنت أرتديها من جديد لأعود إلى نفس المكان.
إقرأ أيضا: كان هناك رجل صالح له جار يهودي
هاتف خفي دفعني لأذهب إلى هناك مجددا كل مشاعري تنبأني أن هذا الرجل حسام ،
وأنه سيعود إلى نفس المكان ليبحث عني بالتأكيد هذه إبنته ريما والتي أطلق عليها إسمي.
بالتأكيد مشاعري تجاه هذا الغريب لم تأت من فراغ ، بالتأكيد عرفني كما عرفته.
كنت أدعو الله جاهدة أن يعود إلى نفس المكان وألا ينصرف منه قبل أن أصل إليه.
مشاعر متخبطة تدفعني للإحساس بأنه حسام إبن عمي ورفيق طفولتي ،
ومشاعر أخرى تدفع عني التعلق بأمل ضعيف مفقود.