عودة الروح

عودة الروح

كعادته كل صباح بعدما يتناول إفطاره ، يأتي للجلوس بجواري بداخل الكراج ، يتصفح الجريدة ، أو يمسك بكتاب ليقرأه ، فتلك عادته منذ توفت زوجته التي كانت تملكني منذ قرابة العشر سنوات.

منذ وفاتها قرر إعتزال الدنيا ، وأن يعيش على ذكراها ، وربما ما عمق شعوره بالوحدة أنه لم يرزق منها بأطفال ،

فكنت أنا الشيء الوحيد الذي يشعر بأنه جزء منها لأنها كانت تحبني بشدة.

فمنذ أن إقتنتني لم تقم بإستبدالي بأي سيارة أخرى ، كنت في نظرها أجمل سيارة على وجه الأرض ،

وبالتدريج إنتقل حبي له أيضا ، خاصة أنه كان سائقا محترفا في سباقات السيارات ،

وكانت أخبار إنتصاراته تتصدر أغلفة الصحف والمجلات وشاشات التلفاز.

إلا أنه قرر الإعتزال بعد وفاتها ، فلم يعد يرى جدوى من أي فرحة لا تشاركه بها ،

أو بمعنى أدق لم يعد هناك ما يشعره بالسعادة بعدما فقدها.

يجلس بجواري ساعات طويلة ، يترك الكتاب من يده ، ليطيل النظر إلي ،

كأنه يتذكرها عندما كانت تقوم بقيادتي ، أراه يبتسم أحيانا كأنه يراها تلوح له بيدها مبتسمة.

تارة أخرى أرى الدموع تسقط من عينيه حزنا عليها ، كان يحبها حقا ، أرى تأثره وحزنه عليها طوال تلك السنوات الماضية.

ذات يوم بينما كان يجلس على مقعده الخشبي ، مستندا على مقدمتي ليشعر بأنها ما زالت بجواره ،

يتصفح الجريدة ، إعتدل بحركة مفاجئة ، وأخذ يدقق النظر فيما وقعت عليه عينه.

نظرت من خلف كتفه على إستحياء لأرى ما أثار إهتمامه لتلك الدرجة.

كان هناك إعلان يتحدث عن سباق للسيارات سوف يقام قريبا ، ويدعوا راعيه المتسابقين القدامى للإشتراك به ،

بشرط أن تكون السيارات المشاركة في السباق من موديل الستينات.

أخذت أراقبه ، ترى بما يفكر ؟

هل ما قمت باستناجه صحيح ؟

إقرأ أيضا: سرقة مباحة

هو متسابق قديم ، وربما عاد إليه الشغف الذي خفت قبل عشر سنوات ،

كما أن مواصفات السيارة تنطبق علي تماما ، لكن هل سيفعلها حقا !

نهض من على مقعده ، أخذ يدقق النظر إلي ، يطالع إطاراتي التي فرغت من الهواء ،

وأبوابي التي أصبحت لا تفتح إلا بصعوبة بالغة بسبب إهمالها منذ سنوات.

مسح بكفه على زجاجي الأمامي ليزيل الغبار العالق به منذ وقت طويل ،

شعرت بإحساس لم أشعر به منذ زمن ، عندما كانت صاحبتي تهتم بي وتدللني دوما ، حدثت نفسي قائلة :

ترى هل ستعود الأيام الخوالي مرة أخرى.

أخذ يدور حولي ، يطالع كل جزء بإهتمام بالغ ، قام بفتح مقدمتي ، نظر إليها متفحصا إياها بدقة ، وانصرف مسرعا لداخل البيت.

عاد بعد دقائق حاملا ورقة وقلم ، أخذ يدون بداخلهما ما ينقصني لأعود للعمل مرة أخرى ،

حاول فتح أبوابي التي كان الصدأ قد زحف بداخلهما وتمكن منهم ، حاولت مساعدته قدر الإمكان.

بمجرد أن فتحت الأبواب شعرت بشعور إنسان قام بفرد ذراعيه بعدما ظلا مطويان لسنوات طويلة حتى تيبسا.

جلس خلف عجله القيادة ، محاولا تحريكها يمينا ويسارا ، بالطبع لم تستجب بسبب قلة إستخدامها ،

نظر لمقاعدي التي إهترأت وتعلوها طبقة كبيرة من الأتربة ، حاول أن يطمئن على كفاءت أنواري الأمامية ،

التي لم تعد تعمل بالطبع بسبب قدم بطاريتي التى ظلت متوقفة لزمن طويل.

أخذ يدون بالكراسة التي يحملها ما يحتاجه لأعود جديدة مرة أخرى.

بعدما إنتهي ترجل ، كانت الشمس قد أوشكت على المغيب ، قام بغلق أبوابي ، وتحدث إلي قائلا وكأنه يعلم بأنني أسمعه :

من الغد سنبدأ بالعمل لتعودين ملكة كما كنتي سابقا.

أثارت كلماته بداخلي الحماس الشديد ، لدرجة أنه لم يغمض لي جفن طوال الليل ،

منتظرة شروق الشمس بفارغ الصبر ليأتي ونبدأ بالعمل.

إقرأ أيضا: الياقوت الأبيض

أخذت أتذكر عندما كنت أسير بسرعة كبيرة أشق الهواء ، في شوارع الإسكندرية الرائعة في الشتاء بجوار البحر ،

وصاحبتي ممسكة بعجلة القيادة بيدها اليمنى ، بينما تريح ساعدها الأيسر على الباب ،

شعرها يتطاير للخلف على صوت فيروز الذي يصدر من المذياع مرددة
( شط إسكندرية يا شط الهوا ).

يالها من أيام رائعة ، عندما تذكرتها ، إنسابت من عيني دمعة حارة ، أخذت أحدث نفسي هل يمكن أن تعود تلك الأيام مجددا ؟

بعدما ظللت قابعة بالكراج لسنوات طويلة.

يكسوني الغبار ، بعدما فرغت إطاراتي من الهواء كأقدام عجوز ضاعن بالسن أصابها الشلل من قلة الحركة ،

كإمرأة إمتلأ وجهها بالتجاعيد لم تعد مرغوبة من الرجال.

أم أنني سأعود شابة مرة أخرى ينظر إليها الجميع بإعجاب كما كان يحدث في السابق ،

حينما كان الكثير من الناس يقومون بإلتقاط الصور بجواري ، متمنين قيادتي لبضع دقائق للإستمتاع ،

مبهورين بلوني الأحمر الزاهي ، وقوامي الإنسيابى المتناسق ، الذي يلفت الأنظار منذ الوهلة الأولى.

أشرقت الشمس ، ظللت منتظرة قدومه بفارغ الصبر كعادته كل صباح وأنا أمني نفسي بما سيحدث.

عجبا لقد تأخر كثيرا عن موعد حضوره اليومي ، ربما نسي ما قاله لي بالأمس ظنا منه أنني لم أستمع لما قال.

إنهمرت دموعي بغزارة ، فبعدما جلست طوال الليل مستغرقة في الأحلام التي إرتفعت بي لعنان السماء ،

إستيقظت على كابوس مخيف جعلني أسقط للأرض السابعة.

وأيقنت الحقيقة أخيرا ، لقد أصبحت بقايا سيارة خربة لا تصلح لشيء سوى لإسترجاع الذكريات لا أكثر.

في منتصف النهار ، سمعت جلبة بالخارج ، رأيته يقوم بفتح باب الكراج ، بينما كانت هناك شاحنة متوقفة بالخارج يقوم صاحبها بإنزال ما بها من أغراض.

لم أصدق عيناي حينما رأيته يقوم بإنزال موتور جديد وكافة الأغراض التي قام بتدوينها بالأمس.

كدت أطير فرحا ، تمنيت لو أن يعمل لأطلق له العنان ليعبر عن ما أشعر به من فرحة بالغة.

إقرأ أيضا: في تلك الليلة الباردة خرجت من المنزل

بعدما إنتهى من وضع الأغراض أرضا ، ذهب لداخل البيت وعاد بعد قليل ، مرتديا ملابس خاصة بالعمل المقبل عليه ،

ممسكا بصورة كبيرة له وهو يحمل كأس عملاق فاز به في الماضي ،

قام بتعليقها على الجدار المجاور لي ، لتذكره بأمجاده السابقة كواحد من أفضل المتسابقين ، ولتكون حافزا له لإتمام عمله.

قام بالإمساك بخرطوم المياه الموجود بجواري ، قام بتوجيهه نحوي ، فتح الصنبور ، غمرني الماء بقوة.

شعرت بإنتعاش كنت قد نسيته منذ زمن ، كطفل يسير تحت المطر للمرة الأولى في حياته.

تساقطت الأتربة المختلطة بالمياه من على جسدى أرضا ، بدأت أشعر بالتحرر مما كان يثقل كاهلي لزمن طويل.

بعدما إنتهى أغلق الصنبور وجلس على مقعده أمامي ، وتحدث كأنه يخاطب زوجته الراحلة قائلا :

سوف تعود سيارتك كما كانت من قبل يا عزيزتي ، وأعدك بأنني سأفوز بهذا السباق من أجلك.

قالها ونهض كأنما تحول لشخص أخر ، أصغر بعشرون عاما على الأقل ، نظر لصورته المعلقة على الجدار وتحدث لنفسه قائلا :

هيا بنا لنعود من جديد يا بطل.

لم يتوقف عن العمل حتى إنتصف الليل ، كلما شعر بالتعب يتحدث لنفسه ليحمسها بين الحين والآخر ، ليواصل ما بدأه.

بعدما شعر بأنه لم يعد قادرا بالفعل على المواصلة وأنه بذل قصارى جهده ،

أغلق مقدمتي وهو يتحدث إلي للمرة الثانية قائلا :
لنستريح قليلا يا صغيرتي ولنكمل في الغد.

مر قرابة عشر أيام من عمله المتواصل ليل نهار ، حتى أعادني لحالتي الأولى وكأن تلك السنوات لم تمضى علي ،

كجراح تجميل ماهر إستطاع تحقيق معجزة مستحيلة الحدوث.

وصلنا للمرحلة الأخيرة ، أحضر الوقود اللازم للسير ، بعدما إنتهى ، قام بفتح باب السائق بكل سهولة ،

جلس على المقعد الذي أصبح جديدا بفعل لمساته السحرية ، وضع المفتاح ، أمسك عجلة القيادة بكلتا يديه.

ضربات قلبي ترتفع بقوة ، ترى هل ستحدث المعجزة ويصدر الصوت المميز للموتور معلنا إستعدادي للحركة؟

إقرأ أيضا: يحكى أن دجالا جاء إلى إحدى المدن

أشعر بأنني بالفعل قادرة على فعلها ، تحدثت للمحرك راجية منه أن لا يخذلني ،

أقسمت على إطاراتي التي أصبحت ممتلئة بالهواء أن تكون سندا لي فى تلك اللحظة.

إرتفع صوت المحرك معلنا أنه بحالة جيدة ، أضاء الأنوار الأمامية ، شعرت كأنني كفيف ، يبصر للمرة الأولى في حياته بعدما ظل لسنوات طويلة يحيا في الظلام.

ضغط على دواسة الوقود ، خاطبت الإطارات أن تبدأ في التحرك ، إستجابت لي ، دارات حول نفسها بقوة.

شعرت كأنني أولد من جديد ، بعدما ظننت أنني لم أعد قادرة على الحركة.

بمجرد خروجي من الكراج للشارع العام ، ضغط دواسة الوقود بقوة ، إنطلقت بأقصى سرعة ،

مخترقة الهواء، قام بتشغيل المذياع ، فجاء صوت فيروز يشدو قائلا
شط إسكندرية يا شط الهوا.

يا لها من مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق ، إتسعت عيناه دهشة عندما سمع الأغنية ، ولم تكن دهشت أقل منه ،

وكأن زوجته ترسل إلينا رسالة من العالم الأخر ، تخبرنا بأنها تشعر بنا وتشاركنا فرحتنا.

بعد عدة أيام وقفت بداخل حلبة السباق ، هناك الكثير من الجمهور يجلسون بالمدرجات ، بينما يقف هو بجواري ،

يقوم بعمل لقاء مع أحد المحطات التلفزيونية ، شعرت برهبة كبيرة فتلك هي المرة الأولى التي أشارك في سباق كهذا ،

أخذت أنظر للسيارات المتراصة بجواري ، وأنا أمني نفسي أن أتفوق عليهم.

سألته المذيعة عن سبب إختفائة طوال تلك السنوات الماضية ، خاصة أنه إعتزل وهو في قمة مجده ،

أخبرها بأن هناك ظرف قهري هو ما دفعه لفعل ذلك ، عادت لتسأله قائلة :

هل صحيح أن السبب هو وفاة زوجتك؟
صمت قليلا ورد قائلا :
نعم.

إقرأ أيضا: رجل توفيت والدته قبل أن يتوظف

عادت لتسأله مجددا :
وما سبب عودتك مجددا ؟
بدى التأثر واضحا عليه ، ربت على مقدمتي بحنان وهو يجيبها قائلا :

تلك سيارة زوجتي ، وعندما علمت بأمر السباق قررت المشاركة كنوع من رد الجميل لها ، فلقد كانت نعم الزوجة والصديقة.

عندما سمعت ما قاله ، زالت عني الرهبة ، حل محلها شعور بالتحدي والإصرار ،

أقسمت على الفوز بذلك السباق مهما كانت الظروف ، إحياءا لذكرى صاحبتي وتخليدا لها ، وردا لجميله ، بعدما أعاد لي الحياة من جديد.

Exit mobile version