في بيت الغريب
اعتاد الجيران أن لا أحد يأتي لزيارة محمود السوهاجي منذ زمن بعيد.
فبعد وفاة زوجته ، يعيش وحيدا بشقته بداخل البناية المكونة من أربع طوابق ، مسن على المعاش ، ليس لديه اولاد.
يرونه فقط أثناء ذهابه لأداء الصلاة في المسجد ، وأثناء عودته حاملا بعض الأكياس البلاستيكية التي يحضر فيها ما يحتاج من أغراض.
قبل الغروب يجلس في الشرفة يطالع الجريدة ، أو يقرأ كتاب يحتسي قهوته ، يدخن بكثرة كقاطرة بخارية.
حياته رتيبة ، نمطية لا يوجد بها أي تغيير يذكر ، لو أنك سافرت لسنوات وعدت لوجدت كل شيء تغير إلا محمود سيظل كما هو.
بجلسته المعتادة ، جلبابه الأبيض ، والكوفية السوداء التي يلف بها عنقه ،
شعره الأبيض الغزير الذي يغطي رأسه والذي لم يصل إليه الصلع بعد ، رغم تقدمه بالعمر ، نظارته الطبية ذات الإطار الذهبي العتيق.
حديثه قليل ، يكاد يكون معدوم مع الجيران ، كل ذلك جعل لمحمود رهبة خاصة في نفس كل من يعرفه أو ينظر إليه.
كثرت حوله الأقاويل ، فأنت تعلم طبيعة البشر ، لا يكفوا عن الحديث على بعضهم البعض ،
يتحدثوا كثيرا لأن ليس لديهم ما يفعلوه.
لكن ما جعلهم يكثروا من الحديث عن محمود في الأيام الأخيرة ، أنه لم يعد يذهب للمسجد كما اعتادوا أن يروه ،
لم يعد يجلس فى الشرفة كعادته ، فقط إضاءتها ليلا ، ولا يوجد أحد جالسا بها.
كما أن ذلك الرجل الذي يحمل حقيبة سوداء ، والذي أصبح يزوره بانتظام كل ثلاثه أيام ،
يثير مظهره الشكوك في النفوس ، يصعد إليه ، يجلس قرابة الساعه وينصرف بعدها مسرعا.
كل تلك التغيرات جعلت من محمود حديث للناس بشكل يومي ، أثناء جلوسهم على المقهى.
كذلك أدى إنتشار القطط السوداء بكثرة في البناية ، خاصة أمام باب شقته ، لجعل الناس تزداد نفورا منه.
إقرأ أيضا: دوستويفسكي الأديب الروسي بعد القبض عليه
أيضا الكلاب التي يجدوها ميتة بشكل يومي في الشارع ، خاصة تحت شرفته ،
جعل الجميع يتأكدوا بما لا يدع مجال للشك أن محمود يقوم بأمر مرعب ، لكن لا أحد يدري ما هو بالضبط.
تحدث أحدهم ذات مرة قائلا : ربما يبحث عن أثار ، ويقوم بقتل تلك الحيوانات للوصول للمقبرة.
وتحدث آخر مؤكدا أنه يمارس السحر الأسود ، كان لهذا الرأي الأخير صدى كبير بين أفراد المنطقة ، وتحمس له كثيرين.
إنتشر الخبر في كل بيوت الحي ، إنتشار النار في الهشيم ، وما زاد من إنتشار هذا الرأي ، أنه لم يعد يذهب للمسجد كما كان يفعل سابقا.
فمنذ أن عرفوه لا يتكلم مع أحد ، ودائما ما يتحاشى الإختلاط بالناس ، بالإضافة لأنه يعيش وحيدا لا يزوره أحد.
كما أكدت أم مصطفى التي تسكن في الشقة السفلية ، أنها دائما ما تسمع أصوات غريبة تصدر من شقته بعد منتصف الليل ،
وأقسمت أنها ترى في سقف الحمام بقع دماء باستمرار ، بالإضافة للروائح الكريهة التي تنبعث من شقته.
بالطبع أنت تعلم ، يكفي أن تخبر أم مصطفى إحدى صديقاتها بالأمر ، ليكون بعد ساعة واحدة ،
قد إنتشر في كافة بيوت الحي ، كما أن كل من يقوم بنقل الرواية يجب أن يضيف بصمته الخاصة.
فتلك تتحدث عن وجود وطاويط فى البناية ، وأخرى تتحدث عن أصوات صراخ أطفال تستغيث.
تحول محمود السوهاجي في نظرهم للشيطان ذاته ، الأباء يحذرون أطفالهم من اللعب بجوار البيت ،
الرجال والنساء يتلون القرآن باستمرار أثناء مرورهم بجانب البيت.
بالطبع بعد فترة يتحول الخوف لغضب ، وها قد حانت اللحظة الحاسمة ، حينما قرر أهل الحي التخلص من محمود وسحره ،
الذي سيجلب الجن لبيوتهم ، ويجعل أطفالهم عرضة للمس.
إجتمع رجال الحي الأشداء ، مقررين إقتحام شقته والتخلص منه وإحراق كتب السحر التي يحتفظ بها ،
وبعدها سيقومون بإبلاغ الشرطة ، وما زاد من شجاعتهم أن محمود لا أحد يسأل عليه ، وليس لديه أقارب سوف يأتوا بأي رد فعل.
إقرأ أيضا: رجل يدفع زوجته لينقذ نفسه من الغرق
قرروا أن يكون الوقت المناسب ، حين يأتي إليه ذلك الرجل الذي يزروه ، والذي أطلقوا عليه مساعد الساحر.
عند التاسعة مساءا في موعد حضور المساعد ، كانوا يختبئون على الدرج في الأدوار التى تعلو شقة الساحر ،
وبمجرد أن حضر ، وقام بفتح باب الشقة.
إنقضوا عليه مرددين بعض الآيات القرآنية ، قاموا بدفعه لداخل الشقة ، أخرج أحد المهاجمين سكين ،
قام بوضعها على عنقه ، حذره من القيام بأي ألاعيب شيطانية وإلا سوف يكون مصيره القتل ، وتسأل أخر أين محمود الساحر؟
تفاجأ الرجل مما يحدث ، بالكاد إستطاع أن يتمالك نفسه ، ورد بدهشة قائلا :
عن أي ساحر تتحدثون!
خاطبه الذي يحمل السكين بغضب شديد :
محمود الذي يقوم بأعمال السحر لإيذاء أطفالنا ، من لا يملك ذرة إيمان ولا ضمير.
رد الرجل والذهول باديا على وجهه :
أنا طبيب وأتي للأستاذ محمود مرتان في الأسبوع لأتابع حالته الصحية ،
بعدما كسرت ساقه ولم يعد يقوى على الحركة ، كما أنه كان صديق للمرحوم أبي.
تحدث أحد الحاضرين قائلا : وماذا عن القطط التي تتجمع أمام منزله؟
رد الطبيب قائلا : الرجل كما تعلمون يعيش بمفرده ، ويرى في تقديم الطعام للقطط نوعا من الثواب ،
يقوم بوضعه إما أمام باب المنزل أو يقوم بإلقائه من الشرفة.
أما عن موت القطط ، فإنها تموت يوميا ، لكنكم عندما تريدون أن تروا أحد سيئا تختلقون ألف سبب لإثبات ذلك.
واردف مخاطبا الواقفين : إذا لم تكونوا تصدقوني تعالوا معي لحجرة نومه ولتروا بأنفسكم.
أسرع الخطى باتجاه الحجرة ، قام بفتح الباب ، وهو يتحدث إليهم قائلا : أنظروا لتتأكدوا من صدق حديثي.
اصطدموا بالرائحة الكريهة التي إنبعثت بمجرد فتح باب الحجرة ، وجدوه ميت على فراشه.
أخذوا الجميع يرددوا ، البقاء لله ، وهم يدعون له بالرحمة ، بينما تحدث أحد الحاضرين معددا مميزاته ،
وأنه لم يكن له شأن بأحد ، ولم يسمعه يوما تشاجر ، بينما أضاف آخر ، بأنه كان دائم التردد على المسجد.
أخذوا يعددوا مزاياه ، وبدأوا في الإنصراف لإنهاء إجراءات الدفن.