في عام 1959 لم يتجاوز عمري الحادية عشرة عاما
في عام 1959 لم يتجاوز عمري الحادية عشرة عاما وأنا أجلس في دار عربية يتواجد فيها عدة غرف ومطبخ ومنافع مشتركة في حي المشارقة في مدينة حلب
وكنت أقطن في غرفة من هذه الغرف وعند مدخل الدار درج لسطحها ومعد تحته كغرفة للسكن ،
بعرض أقل من متر ونصف المتر تقطنها إمرأة عجوز في أواخر الثمانينات من عمرها.
وبعد منتصف الليل سمعت صوت مناجاة عند مدخل الدار خرجت من غرفتي لأعرف مصدر الصوت وصاحبه :
وإذ به يخرج من تحت الدرج فأدركت أن صاحبه الجارة العجوز وهي تقول :
يارب قطعتني من الأب والأخ والزوج والإبن فلا تقطعني من رحمتك وعطائك وكرمك!
يارب مضت أيام ثلاث وأنا بلا طعام ولا حتى رغيف خبز ولا كسرة منه لأقتات بها علَّ رحمتك تصلني وليس من أسأله غيرك يارب!
ولا من باب أدقه سوى بابك الكريم! يا رب استر كبرتي ولا تجعلني أمد يدي لسواك!
وتكررت تلك العبارات وختمتها بقولها يارب يقولون عنك بأنك من قلت :
ادعوني استجب لكم ويقولون بأنك قلت : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان! وها أنا أدعوك يارب!
أما أنا فقد انسابت الدموع من عيني ألما على حالة العجوز وأنا طفل ليس بوسعي فعل شيء ،
لأوقف آهات ونواح تلك العجوز حيث حالتي ليست أفضل من حالتها!
نبشت جيوبي فوجدت ٧ فرنكات تكفي ليومين بسندويشتين لا أكثر.
تصارعت مشاعري مع عقلي وتشاجر جبني مع شجاعتي وتدخلت مروئتي مع إيماني ،
وحسمت الموقف لصالح الإقدام والإيمان بالله وهاتفني صوت داخلي بقوله :
أعطهم للعجوز التي مضى على جوعها ثلاثة أيام واحمل جوعا لثلاثة أيام علَّ الله لا ينساك من سخائه.
فنهضت كالجمل حاملا كل ثروتي (الفرنكات السبع) في يدي وقصدت الدرج ووضعت الفرنكات السبع ،
تحت باب الدرج في خزائن الله وعدت لغرفتي.
إقرأ أيضا: رجفة الفقدان قصة قصيرة
وعند الفجر أشعلت ضوء غرفتها فشاهدت الفرنكات السبع وأخذت تحمد ربها الكريم وتشكره ،
وكأنها تسلمت منصب زنوبيا ملكة تدمر في غابر الزمان!
وأنا أسمع تلك العبارات وكلي أمل بأن تُفرَجَ عليَّ أيضا!
أصبح الصباح وهممت بالذهاب لمدرستي وغادرت الدار وصوت العجوز بالمناجاة والشكوى لله ،
ثم حمدها لله لا يفارق مسمعي ولا ذاكرتي.
وبينما أنا في هذه الحالة فقد دخلت مقبرة ( جبانة) باللهجة الحلبية وصرت في منتصفها وإذ بي:
أشاهد قطعة نقود من فئة الخمسين ليرة سورية وتعادل ألف فرنك وتكفيني لنصف عام كامل!
حملتها بيدي وتلفت لكافة الجهات فلم أرى من أحد وناديت بأعلى صوتي : من وضع قطعة نقود على هذا الضريح ؟
من فقد قطعة نقود فلم يجبني أحد.
وضعتها في جيبي وشعرت بأنني صرت غنيا. يا الله من وضعها ؟ أين هو ؟
تلكأت في المسير أملا بحضور صاحبها لكنني أضحيت على وشك التأخر عن موعد دخول المدرسة فتابعت المسير وتذكرت قول الله تعالى وما تفعلوا من خير تجدوه.