قصة اللص التقي
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أن هذه القصة من أعجب القصص التي سمعها ورآها في حياته!
يخبرنا الشيخ علي الطنطاوي بأن في هذه القصة من الطرافة أكثر من المنفعة منها ، وهي واقعة يعرف أشخاصها وظروفها.
فقال رحمه الله تعالى :
هي قصة شاب فيه تقى وفيه غفلة ، في آن واحد ، طلب العلم حتى أصاب منه حظا.
فقال شيخه له ولرفاقه : لا تكونوا عالة على الناس ، فإن العالم الذي يمد يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير ،
فليذهب كل واحد منكم وليعمل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها ، وليتق الله فيها.
وذهب الشاب إلى أمه فقال لها : ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها ؟
فاضطربت المرأة وقالت : أبوك ذهب إلى رحمة الله ، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها ؟!
إذهب وتعلم أي صنعة ودعك من صنعة أبيك!
فألحَّ عليها وهي تتملَّص منه ، حتى إذا إضطرها إلى الكلام أخبرته وهي كارهة : أن أباه كان لصا!
فقال لها : إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كل بصنعة أبيه ويتقي الله فيها.
قالت الأم بحسرة : ويحك ! وهل في السرقة تقوى ؟
وكان في الولد كما قلت غفلة فقال لها : هكذا قال الشيخ.
ثم ذهب فسأل وسأل وتابع السؤال ودرس وراقب والتقط الأخبار حتى عرف الطرق والوسائل التي يسرق بها اللصوص ،
فأعدَّ عدة السرقة ، وصلى العشاء ، وانتظر حتى نام الناس ، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ.
إقرأ أيضا: الحرف الذي لا يعد من الأبجدية
فبدأ بدار جاره ، ثم تذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى ، وليس من التقوى إيذاء الجار ، فتخطى هذه الدار.
ومر بأخرى فقال لنفسه : هذه دار أيتام ، والله حذر من أكل مال اليتيم.
وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني ليس له إلا بنت واحدة ،
ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته ، فقال : ها هنا!
وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل ، فوجد داراً واسعة وغرفاً كثيرة ،
فجال فيها حتى إهتدى إلى مكان المال ، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً ،
فهم بأخذه ، ثم قال : لا ، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى ، ولعل هذا التاجر لم يؤد زكاة أمواله ، لنخرج الزكاة أولا.
وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه ، وراح يراجع الدفاتر ويحسب ،
وكان ماهرا في الحساب خبيرا بإمساك الدفاتر فأحصى الأموال وحسب زكاتها فأزاح مقدار الزكاة جانبا ،
واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات ، فنظر فإذا هو الفجر!
فقال : تقوى الله تقضي بالصلاة أولا !
وخرج إلى صحن الدار ، فتوضَّأ من البركة وأقام الصلاة ، فسمع رب البيت ،
فنظر فرأى عجباً ، فانوساً مضيئاً ، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة!
قالت له إمرأته : ما هذا ؟
قال والله لا أدري !
ونزل إليه فقال : ويلك ، من أنت وما هذا ؟
قال اللص : الصلاة أولاً ثم الكلام ،
إذهب فتوضأْ ثم تقدمْ فصلِّ بنا ، فإن الإمامة لصاحب الدار!
إقرأ أيضا: يقول صاحب القصة كان أبي شيخا كبيرا
فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح ففعل ما أمره به ، والله أعلم كيف صلى!
فلما قضيت الصلاة قال له : أخبرني من أنت وما شأنك ؟
قال : لص .
قال : وما تصنع بدفاتري ؟
قَال : أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنين ، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصاريفها!
فكاد الرجل يُجَنُّ من العجب ، وقال له : ويلك ، ما خبرك ، هل أنت مجنون ؟!
فأخبره خبره كله.
فلما سمعه التاجر ورأى جمال صورته وضبط حسابه ، ذهب إلى إمرأته فكلمها ،
ثم رجع إليه فقال له : ما رأيك لو زوجتك إبنتي وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي ،
وأسكنتك أنت وأمك في داري ، ثم جعلتك شريكي ؟
قال : أقبل.
وأصبح الصباح فدعي بالمأذون وبالشهود وعقد العقد.
يقول الشيخ الطنطاوي معقباً على القصة :
ليت للكثير فقه هذا اللص دون غفلته
فالمشكلة أن للكثيرين الغفلة من غير تقوى.