قصة بائعة اللبن الجزء الثاني
أوصى علي جلال أحد معارفه من المحامين لأتربّص عنده في مكتبه ، وكنت متفوقة ، فصار لي الكثير من الحرفاء ،
وبدأت الجنيهات تجري بين يدي ، وأوّل شيء عملته تأجرت شقة وسط القاهرة ، ونقلت إليها أمي رغم معارضتهما الشديدة ،
وقالت : لمن سأترك داري؟ ثمّ كيف أفعل أبيع بضاعتي في السّوق.
أجبتها بحدّة لا حليب ، ولا سوق! هل نسيت كيف عايرنا ذلك الوقح إبن الجيران؟
يعتقد نفسه أحسن منا ، اقعدي في البيت وسأعطيك مصروفك وأشتري لك ما تريدين ،
أمّا أخي الصّغير ، ففرح بهذه الحياة الجديدة ، وكان يحبّ كل يوم الذّهاب إلى السوبر ماركت ، وهناك يجد كلّ ما يشتهيه من حلويات وألعاب.
وبعد مدّة إشتريت سيارة بالتقسيط ، وأصبحت ألبس وأتزيّن ، وأحمل أمّي وأخي إلى الكازينوهات والمطاعم على كورنيش النّيل ،
وأطلب لهم البيتزا والبرغر ، لم يكن ذلك الأكل يعجبني ، لكني أتظاهر أمام النّاس من الطبقات الميسورة أنّني مثلهم ،
لكنّي لمّا أرجع للشّقة نطبخ طعامنا البلدي ملوخية أو كوسا ، وحتى طبق فول ، وآكل حتى أشبع.
في البيت حاجة وأمام الناس حاجة ثانية.
أصبحت لي صديقات كثيرات من بنات البهوات ، وكنت أكذب عليهن وأقول أن أبي رجل أعمال ناجح ،
وأكثر ما أربحه يذهب في محلاّت الملابس وصالونات التجميل ، أما جلال فتعجّب لهذا التّغيير ،
ونصحني أن أبقى على طبيعتي ، فهو يراني أجمل هكذا ، لكنّي كنت أقول في نفسي : وما يعنيه من أمري ، فهو ليس وصيا علي!
وبمرور الوقت صرت أتجنبه ، فعنده الكثير من طباع الرّيف والأهم من ذلك هو يعرفني كيف كنت أبيع اللبن ،
لهذا قرّرت قطع علاقتي به ، وكلّما اتّصل بي في الهاتف كنت أقفل السّماعة في وجهه ،
لكنّه لم يغضب منّي فلقد حدث مع زوجته نفس الشيء ، وانتهت العلاقة بالطلاق.
إقرأ أيضا: قصة حفظ الجوار من أخلاق الإسلام
طبعا أمّي كانت تعلم بعلاقتي مع جلال ، ولم تكن راضية على ما فعلته معه ، وقالت إنه إبن حلال ، ويحبّك.
فصحت في وجهها : لا أريد أن يعايرني بأنني بائعة لبن لما أتعارك معه ، وهذه الصّورة لن تزول أبدا من باله ، هل فهمت يا أمي؟
ثم الرجّال كثيرون هنا ، وسأختار من يعجبني ، وكلهم يجرون وراء المال والمنصب ، ولا تهمّهم المرأة ، هل نسيتي عبد الفتاح؟
كلّ الرّجال مثله ، أنا أعرف ما أقول.
مرّت الأيّام ، وفتحتت مكتب محاماة خاص بي في شارع فؤاد ، ورشحني الحزب لمجلس الشّعب ،
والمفاجأة أنّ جلال كان في القائمة المنافسة بعد أن أسّس حزبا جديدا ، وعمل حملته في الأرياف وقابل المزارعين ،
أمّا أنا ركزت على كبار الشخصيات ، وكنت مقتنعة بالفوز ،
لكن يوم النتائج فوجئت بأنّه مع البسطاء قد هزموني ، ورفضت أن أهنّئه.
رجعت إلى شقتي غاضبة ، ثم رميت حقيبتي ، وبكيت ،
وبعد أيّام سمعت أن جلال خطب فتاة من أسرة ريفية محافظة ، فلم أعر لذلك إنتباها.
أما أنا فرغم كثرة علاقاتي مع أبناء الأكابر ، فلم يتقدم أحد لخطبتي ، والوحيد الذي كلمني إقترح علي زواجا في السرّ ،
وقد آلمني ذلك ، واكتشفت حجم الرياء والنفاق في هذا العالم الذي دخلته ، كله مظاهر زائفة براقة.
وللمرّة الأولى فكّرت في قريتنا وطيبة أهلها رغم فقرهم ، وهالني إكتشاف أنّني معى أمي وأخي نعيش لإرضاء الآخرين ، وليس أنفسنا ،
ونحن بعنا سعادتنا ، لكن ماذا ربحنا؟ لا شيء.
لقد خسرت جلال وعلياء الطيبة القنوعة التي كانت داخلي وتساءلت ، ألم أكن سعيدة وأنا أبيع اللبن؟
إقرأ أيضا: التاجر الذي ورثه إبنه حيا الجزء الأول
ولما أرجع إلى أمّي بالمال ، كنت أرى الفرحة على وجهها ، كانت تعرف كيف تتصرّف فيه رغم قلته ،
أمّا الآن فالمال موجود لكن لا تفعل به ما تشتهيه نفسها ، فلقد منعتها من زيارة الأقارب ،
وحكمت عليها أن تخلع الجلباب الريفي ، وتلبس فستانا ، وهدّدتني مرات عديدة بأخذ أخي الصّغير ،
والرجوع إلى قريتها وهي غير راضية لبقائي دون زواج والخروج في الليل للسّهر.
مرّت كل هذه الأفكار أمامي دفعة واحدة ، وتساءلت لماذا جاء كل ذلك الآن؟
ثم عرفت الجواب ، فأنا أحبّ جلال ، وكنت أكابر لأنّي لم أرد أن أعترف أنه صاحب الفضل عليّ ،
تصوّرت أنّه يمكني بناء حلمي بنفسي ، لكني فشلت ، ومازالت كلماته ترنّ في أذني لمّا نصحني أن أبقى على طبيعتي ،
والآن سيتزوّج ، ولن أجد شخصا مثله يحبني ويقبل بي كما أنا.
فكرت طوال الليل ثمّ إتخذت قرارا غريبا.
وفي الغد أتيت بتاجر ، وبعت كل أثاث الشقة والمكتب ورجعت إلى قريتي ، لا أكذب عليكم أني لما فتحت باب الدار شممت رائحتها ،
وتزاحمت في ذهني الذّكريات ، فأحسست بفرحة طاغية.
وفي الصّباح كنت في السوق وأمامي زجاجات الحليب والجبن ، وقلت في نفسي لقد عشت سنوات لأجل الناس والآن سأعيش لنفسي.
بعد أيّام وجدت جلال أمامي وفمه مفتوح من الدّهشة ، وقلت له : لا تتعجّب ، فقدري أن أكون بائعة لبن وأنا سعيدة بذلك.