كان السائق شارد الذهن وهو يقود الحافلة
كان السائق شارد الذهن وهو يقود الحافلة
كل ما كان يحتل رأسه ويدور فيها هو كيفية تدبير المبلغ المالي المطلوب منه لإتمام تجهيزات عرس إبنته ،
الذي تم تأجيله أكثر من مرة بسبب ضيق الحال ، لذا ينتابه دائماً إحساس بالعجز رغم أنه لم يترك باباً إلا وطرقه ولا درباً إلا وسلكه.
توقفت الحافلة لتُخرج منها بعض من الحكايات وتمتلئ بحكايات أخرى لأناس تطحنهم الحياة بشقي رحاها ،
تتزاحم الحكايات على باب الحافلة وكأنها على موعد مع الجنة ،
لكل حكاية منهم وجهة ، ولكل حكاية أناس ينتظرونها وتتشابك مصايرهم معها.
حاولت العجوز التي دلفت متأخرة تتوكأ على عصاها أن تجد مكاناً لتجلس فيه وتُريح قدميها من مشوار طويل في الحياة.
أصبحت تسأل نفسها متى ينتهي ، لكنها لم تجد مبتغاها إلى أن قرر أحد الشباب الوقوف ليفسح لها مكانه عندما تقابلت أعيُنهما ،
ورأى في عينيها أمه التي لم يمهله القدر ليراها ، لقد توفيت عقب مولده بثوان معدودة ،
لم يرتو منها ولم ترتو منه فنال منها دعوة بالتوفيق وسداد الخُطى وهذا أكثر مما كان يتمنى في الوقت الراهن.
وهو مقبل على إجراء مقابلة للظفر بأحد الوظائف التي قيل عنها محجوزة مسبقاً لأحد أبناء أصحاب النفوذ.
وقف مجاورا لرجل أربعيني وكل منهما يمسك بإحدى يديه بحلقة تتدلى من السقف ليحفظ توازنه ،
إلا أن كثرة المطبات بالطريق أبت أن يستقر كل منهما بمكانه.
إقرأ أيضا: حكاية حكمة الفقراء
عندما اختل توازن الشاب ومال بجسده على جاره الذي ظفر بضيق وخرجت أنفاسه الحارقة تكاد تلفح وجه الشاب ،
لكن سرعان ما هدأ بعدما تلقى اعتذاراً مليئا بالأدب ،
يبدو على قسمات وجه هذا الرجل العجلة ، لا يعلم أحد من جيرانه بالحافلة ما هو مقدم عليه ولا ما ينتظره ،
فلقد تلقى لتوه خبر نقل زوجته للمشفى بعدما جاءها المخاض قبل موعدها بشهرين كاملين فترك عمله دون إذن أو تصريح من رب عمله ،
كان مشوش الذهن لا يرغب من الدنيا وما فيها إلا سلامة زوجته وإبنه الذي طال انتظاره لأكثر من عقد كامل.
أثناء هذا الاندفاع المفاجئ اصطدم بدوره بسيدة كانت تجلس على المقعد المجاور فاعتذر لها بدوره ،
لكنها لم تلق بالاً بما حدث ، لقد كان يتخطفها أشواقها وحنينها لزوجها الغائب وهي تداعب صغيرها باسمه ،
وتخبره أنه ذاهب لاستقبال والده الذي أوشكت طائرته على الوصول بعد غربة قاربت العامين ،
حرمته رؤيته عند مولده وبجوارها تجلس سيدة أخرى وخلفها يقف هذا ويجلس ذاك ، أناس عدة بحكايات مختلفة ونفوس مبعثرة.
عجبا لهذا الصندوق الحديدي الصامت الذي يحوي هذا الكم من المشاعر ، من الآلام والأفراح ،
من الآهات والضحكات ، ومن العبرات والبسمات ، كل حكاية منهم تنتظر محطة الوصول لتكمل باقي فصولها.