كما تزرع سينبت الجزء الأول
كما تزرع سينبت الجزء الأول
أجبرها والدها على ترك الدراسة وهي في عمر الزهور ، وعلى الرغم من محاولاتِ أمها إقناعهُ بالسماح لها بإنهاء تعليمها ،
لكن اعتقادَهُ كان راسخاً برأسهِ كما علَّمَهُ أبيه ، بأنَّ الفتاة لا تصلح في الحياة إلا كزوجة ، فباتَ بكل مرة يقول لها :
لقد زوَّجَكِ أبيكِ مني وأنتِ في عمر ابنتك ، وجَعَلْتُكِ تعيشين حياة كريمة لا ينقصك شيء ، غيرَ أنَّ كل شيء تطلبيه تناليه.
ومن ذلك اليوم ، بدَأَت تغرس في عقل ابنتها ، أنْ تكون ستراً على زوجها ، لا تفضَح أفعاله مهما كانت سيئة ،
بل تدعو له بالهداية ، وأن تكونَ كالإسفنج تمتَصُّ غضبهُ ، وتكون السبب في سعادته وراحته ، ومهما أساءَ لها لا تُبادره إلا بالإحسان ،
غير أنها علَّمَتْها مهنة الخياطة كما علَّمَتْها إياها أمها ، وكانت نيَّتها أن تكون لابنتها معيلاً إنْ لم يصونها زوجها كنيَّة أمها عندما عَرِفَتْها لاحقاً ،
لكنها قالت لابنتها كما قالت لها أمها آنذاك :
اجعلي مهنة الخياطة كواردٍ ثانٍ في حالِ وقع زوجك بضائقة مادية أو وعكة صحية ،
واحتاج مساعدتك.
تعَلَّمَتْ الفتاة المهنةَ بشغف ، وأصبح حلمها الوحيد أن تحظى بحياة زوجية هانئة ، ببيت صغير وزوج حنون ،
يُكَرّس حياته بحب لزوجته وأولاده.
وافقَ أبيها على أول عريس دقَّ بابها ؛ حَّداد يكبرها بضع سنوات ، فكان بنظره مناسبٌ بالعمر لابنته ،
ولديه مهنة يستطيع أن يُعيلَ عائلته من خلالها ، فجعل الزفاف يتمُّ بعد بضعة أسابيع فقط ،
كونه لا يحب الخطوبة الطويلة التي لا تعود سوى بالسمعة السيئة على الفتاة.
مضى شهرٌ بعدَ زواجها عاشَتْهُ كما حلمَتْ ، لحين أتى زوجها ليلاً ، يتَرَنًَحُ من تناول المشروبات الكحولية وهو يقول بأعلى صوته :
اعتَقَدَ والدايَ أني بزواجي سأُقْلِعُ عن المشروب ، لا فرحة تُضاهي تأثير المشروبات الكحولية أيها الحمقى.
كان كلامه كالصاعقة أصابَتْها من رأسها لأخمصِ قدميها ، فوقَفَتْ كالتّمثال لا تقوى على الحراك والنطق ،
وهي تنظرُ لخطواته التي لم ترَ أحداً بحياتها يمشي كمثيلها.
إقرأ أيضا: حكاية عصفور وجرادة الجزء الأول
وحين كاد أن يقع ، هرولَت إليه كي تُسانده ، فضَرَبها كَفَّاً جعل الشرار يتطاير من عينيها ثم قال :
لستُ عاجزاً أيتها الحمقاء حتى تساعديني على المسير.
ثم رمى بنفسه على الكنبة ، وغطَّ في نوم عميق ، وجلسَتْ تبكي بحرقة على حظّها ،
وترتعشُ خوفاً من الأيام السوداء التي تنتظرها.
في ظهر اليوم التالي ، استيقظَ زوجها ورأى خدَّها أحمراً ، فعانقها وبدأ بسيل من كلمات الاعتذار :
سامحيني أرجوك لم أكن بوعيي ، أرجوكِ لا تقتربي مني إطلاقاً عندما تريني بهذا الوضع.
صُعِقَتْ لكلامه ، وحمَدَت الله أنَّ ضربه لها كانَ عن غير قصد ، فابتسمت ثم قالت له : لا عليك.
انسحبت لتحضر له الغداء ، وتركته يرتعش خوفاً من ردها ، فقد خَشِيَ أنَّ هدوءها هو هدوء ما قبل العاصفة ،
وأنها سَتُخْبِرُ أهلها ، وتكسر صورته ووعده لأهله ، بإقلاعه عن المشروب بعد الزواج ،
لكنها لم تنسى كلام أمها يوماً ، بأن تكون ستراً على زوجها ولا تفضح أفعاله مهما كانت سيئة ، بل تدعو له بالهداية.
تجَنَّب زوجها العودة إلى المنزل مترنّحاً أياماً ، كي يمهلها وقتاً تنسى فيه ما حدث ولا تخبر أحداً ،
وعندما زارا عائلتيهما ولم تخبرهم ، شعر بالاطمئنان حينها ، وشعرت أن دعائها قد اسْتُجيب ،
لكنه عاد مرات متتالية ، وهو يترنّح ويصرخ بصوت عال : لن أترك المشروب أيها الحمقى.
بكل مرة كانت تركض وتختبئ خشية من أن يراها ويضربها ، واستمرَّ على ذلك الحال لسنة كاملة ، فقالت في قرارة نفسها :
من الواضح أنه لن يتوقف عن ذلك ، ومن المؤكد أنَّ صحته ستسوء عاجلاً أم آجلاً ، ويجب أن أبدأ بالعمل من الآن ،
حتى لا أنسى ما تعلَّمته من أمي ، وأطوّر مهاراتي ، وأكسب زبونات وسمعة جيدة بعالم الخياطة.
عاد زوجها ذات يومٍ بدون أن يحتسي المشروب فقالت له عن رغبتها في العمل ،
فصمت بضع دقائق وهو يفكر بكلامها ، ثم خشي أن يرفض فتستغل رفضه لصالحها وتقوم بفضحه ، فقال لها :
لا مانع عندي ، ما دامَ عملك سيكون مقتصراً على رؤيتكِ للنساء فقط.
إقرأ أيضا: كما تزرع سينبت الجزء الثاني
حلَّق قلبها بأرجاء صدرها فرحاً ، ثم أخْبَرَت أمها عن رغبتها بالعمل ، فسَعِدَتْ كثيراً ،
ووضعَتْ خبراً عند النساء اللواتي يَدْفَعْنَ نقوداً كثيرة على الملابس التي يَأخذوها من الخيّاطات ،
وبعد مضي بضعة أشهر أصبحت سمعتها جيدة جداً ، كونها صغيرة بالسن ، ولديها أفكاراً لتصاميم جميلة ،
فأخْبَرَت أم زوجها بذلك ، فَحَلَّقَتْ فرحاً وأخذت إليها نساءاً يُجَرّبْنَ تصاميمها ،
فأصبحت شهرتها واسعة لحين فوجِئَتْ بحملها ، مما جعل زوجها يُحَلّقُ فرحاً ثم قال لها :
ممنوع لأم ابني أنْ تعمل من الآن فصاعداً.
على الرغم من حزنها الشديد لتركها العمل ، لكنها فَرِحَتْ كثيراً عندما قال لها :
وأنا من الآن فصاعداً، لن أحتسي المشروب إطلاقاً لأجل إبني البطل.
أيْقَنَت آنذاك أنَّ حلمها قد تحقق ودعائها قد استُجيب بالفعل ، لكنها لم تكن تعلم أن الحزن لم ينتهي في حياتها.
يتبع ..