كنت في رحلة الحج منذ ما يزيد على خمسة عشر عاما
كنت في رحلة الحج منذ ما يزيد على خمسة عشر عاما ، وكنت مرشدا ومعلما لفوج من الحجاج آنذاك ، أتكلم مع هذا ، وأتعرف على ذاك.
خاصة وأن الرحلة برية والطريق طويل.
وحدث أن رأيت أحد الحجاج باديا عليه الحزن والضيق ، رغم أن المقام مقام فرح وسرور.
فلما سألته عن السبب أخبرني أن له ولدا مريضا بالصرع ، وأن نوبة الصرع جاءته وهو يودعه عند الباب ، فتأثر لذلك كثيرا.
طيبت خاطره ، وهدأته وخففت عنه حتى إنسجم معنا وانشغل بالحج ، فريضة العمر التي هو مقدم عليها.
وتمضي الحافلة في طريقها المبارك ونحن داخلها نذكر الله حينا ونتعارف حينا ،
ونتسرى بالمسابقات والأناشيد والروحانيات والمعاني أحيانا كثيرة.
حتى حطت راحلتنا في الميقات فاغتسلنا ونوينا واستأنفنا مسيرنا.
ولما اقتربنا من مكة وأصبحنا على مشارف حدود الحرم صرخت في الناس قائلا :
يا إخواني ، هذا بلد حرام وأنتم حجاج ، فلا يدخلن أحدكم البلد الحرام وفي قلبه شهوة محرمة ،
أو وفي جيبه أو حقيبته شيء يكرهه الله ، ثم يدخل به عليه في بلده الحرام وهو يريد المغفرة.
فلا تدخلوها ومعكم ما يغضب الله ولو سيجارة.
فأسرع الناس قبل أن نصل إلى حدود حرم مكة وأخرجوا السجائر وفركوها ورموها في سرعة عجيبة ،
وكأنهم فعلا لا يريدون بينهم وبين رحمة الله حائلا.
غير أن صاحبنا والد الطفل المصروع أمسك بعلبته قبل أن يفركها وقال لي باكيا :
يا شيخ أو إن تبت عن التدخين ما حييت بنية أن يعافي الله ولدي من الصرع يجوز؟!
قلت له : عهدي بالله أنه أكرم منك ، لكن شريطة أن تصدق نيتك!
قال صادقة بإذن الله.
ثم إنكب على السجائر يفتتها وكأنه يقتلها ويخرجها من قلبه لا من حقيبته.
ودخلنا مكة تائبين وخرجنا منها حاجين فرحين والحمد لله رب العالمين.
ثم حدث أن قابلت الرجل بعد سنين ، فقلت له باسما : كيف أنت وعهدك مع الله؟
إقرأ أيضا: للرحيل حكايات
قال : اللهم لك الحمد ، أقوى مما كان أول مرة.
قلت :وكيف حال الولد؟
قال والله لم تأته نوبة الصرع مذ رجعنا من الحج والحمد لله.
فقلت : صدقت الله في ترك سيجارتك ، فصدقك في أمر ولدك.
وانتهت القصة يومها لكن معانيها تجددت ،
فكم هو فرج الله قريب ، لكن من يَصْدُق؟!
وكم نتشبث بآفات تمنع الخيرات؟! وكم تحول معاص -نظنها يسيرة- بيننا وبين خيرات كثيرة؟!
لكن المعنى الأقوى حضورا في قلبي ، لا تدخلوا على الله بتوبات زائفة مغشوشة ، فتخرجوا كما دخلتم!
فالمتشبثون بالذنب ، هم الذين يؤجلون العطاء لمواسم قادمة قد لا يعيشون لها.
ولو كذب صاحب السجائر في توبته ، ما أسرع الله في شفاء ولده وقضاء حاجته!
اصدقوا يرحمكم الله.