لا تكسروا الخواطر قصة حقيقية
لا تكسروا الخواطر قصة حقيقية
يقول أحد الأخوة إعتدت عندما يمدّ لي طفل في سوق الخضار كيسا أنا في غنى عنه ، أن أبتسم في وجهه وأن أمسح على رأسه ،
كإعلان لتضامني معه والإعتذار له بطريقة تحفظ كرامته ، ولا تشعره بالخسارة ، بقدر ما ترفع معنوياته.
شأني في ذلك إمتثالي لحكمة أبي رحمه الله ، الذي كان يقول لنا : عليكم بجبر الخواطر.
والتي كان يرددها دوما مؤكدا أنها صمام الأمان للتعايش السلمي والرضا وقبولك للآخرين وقبولهم لك.
يقول : أردت يوما الترفيه عن أبنائي الصغار فتوجهت بهم حسب طلبهم إلى الحديقة ولم تكن مزدحمة كالعادة.
إقترب منا أحد الصبية وهو في السابعة من العمر تقريبا ، يحمل بالونات ، وهو يروج لها أمام أطفالي الثلاثة!
وكنت أعلم أن إبني الأوسط أحمد إذا فقعت بالونته قبل أخويه ، فإن الرحلة ستنقلب إلى ساحة معركة تعكر صفو المشوار!
لذا طلبت زوجتي من الطفل الإبتعاد وإصطياد زبون آخر.
مضى الطفل كسيرا ، وأنا أتابعه ببصري آملا أن أراه يحظى بمشتري يسعده!
ولكنه ظل يدور ممسكا ببالوناته دون أن يجد مشتري!
ثم عاد وتوجه صوبنا مرة أخرى ، ومكث غير بعيد يتأمل فينا، كأنما يراجع قرارا في نفسه قبل إتخاذه!
وفجأة توجه نحونا وقام بإعطاء كل واحد من أبنائي بالونة وهرب بسرعة ،
كأنما لا يريد أن نفيق من دهشتنا قبل أن يبتعد عنا بالقدر الكافي!
تثبَّتُ في مكاني كالملدوغ ، وقد جعلني هذا الطفل أحتقر نفسي بتصرفه هذا.
فقد أرضى ولع أطفالي بإمتلاك البالونات ، وقد كان همي فقط هو عدم تكدير صفو النزهة ،
وقد نسيت أن إمتلاك البالونة لدقيقة قبل تلفها يعني الكثير من المتعة لأبنائي ،
إقرأ أيضا: كنت متزوج وكنت أعاني من عدم رضى زوجتي
الذين جلبتهم من أجل أن أرى تلك السعادة التي حرمتهم منها ، والتي تفضل بها عليهم هذا الطفل الغريب.
أسرع الطفل في النزول عبر الصخور التي تمرس على وعورتها ، كما تمرس على ضنين الحياة التي دعته ليترك لعبه ويبيع بالوناته !
ظللت أجري خلفه حتى أوشكت على الوقوع ، إلى أن لحقت به بعد أن تقطعت أنفاسي ، وأمسكته من كتفه ،
فحاول الهروب ، ولكنني تمكنت منه لضعفه ولقوتي ، بعد أن تمكن بضعفه من هزيمة قوتي بتصرفه ذلك.
سألته : لماذا أعطيت أبنائي البالونات وولّيت هاربا ؟!
فقال لي : هي هدية لله!
فأحسست حينها أن الصخور تميد تحت أقدامي ، وأحسست باحتقاري لنفسي ،
فأنا قد كنت أنشد راحة أبنائي دون أن أفطن لراحة هذا الطفل الصغير في تطييب خاطره وشراء بضاعته!
فأفرغت ما في جيبي وأعطيته له ، ولكنه رفض بقوة ، وكأنه يحتقر فعلي ، فاحتضنته عليَّ بحنان أبوي وسط ذهول المارة ،
ونزلت دمعة من عيني كطلب الغفران منه ، عسى أن يغفر أنانيتي ونسياني لوصية أبي :
(عليكم بجبر الخواطر )
لم أفترق منه حتى رضي مرغماً بأخذ المال ، ورجعت إلى أطفالي وقد تكدرت في داخلي لحظات النزهة ، حتى عدت إلى المنزل!
فإن حرصي على عدم إشتباك أبنائي ، جلب علي عبئا أكبر من صراخ إبني أحمد لفقده بالونته والتعدي على أخويه.
والغريب في الأمر أن بالونتي أولادي الآخرين كانتا قصيرتا العمر ، وبقيت بالونة أحمد ممسكاً بها حتى عدنا للبيت ،
ونام محتضنا لها دون أن يصيبها أذى ، ولم تنشب تلك المعركة التي كنت أحذرها.
العبرة :
عليكم بجبر الخواطر والمسح على رؤوس أطفال السوق إن لم تشتروا منهم ،
فابتسموا في وجوههم كتعويضا لهم عن طفولتهم البائسة بحنان حرمتهم منه الظروف.
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
( إن العطاء ليس مالا فقط ، وإنما أن نحفظ ماء الوجوه ، ونطيب الخواطر ، ونراعي الكرامات ، فإن إراقة ماء وجه إنسان ، كإراقة دمه )
وما عُبِد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر.