لقد ابتلاني الله بزوج بليد الجزء الأول
رزقا بمولود بعد مضي سنة من زواجهما ، ثم مضت سنوات ، أعادت نفسها بكل يوم ، فهو ذلك الرجل البسيط الذي لم يرغب من الحياة سوى الإستقرار الذي كانت تراه زوجته روتيناً يومي قاتل ،
يأتي من عمله عصراً يتناول الغداء ثم يأخذ قيلولة ،
ليصحو بعد ساعتين يلتصق على الكنبة أمام التلفاز بضع ساعات ويتناول العشاء ، ثم يعاود النوم.
كانت زوجته ترى كل اللواتي يُحِطْنَ بها كيف يَعِشْنَ مع أزواجهن ، غير أنهن يُسمِعنها قصصاً عن رجال لم يكتفوا بعملهم ،
بل بحثوا رغم المشقة ، ليجدوا عملاً إضافياً يزيد مردودهم المادي ،
إلى جانب الخروج من المنزل وقتل الروتين الذي يؤثر على حياة زوجاتهم.
بدأت تدريجياً تشعر بالضيق من البليد الذي لا يتحرك من البيت ،
كما أصبحت تنعته مع نفسها ومع من تشكو له همومها ، فمع أن وضعهم المادي يكفيهم لعيش حياة لا تضطرهم لمدّ يدهم لغيرهم ،
لكنها كانت ترى ذلك أقبح من الشحاتة ، فالشحّاتين ربما في حالة مادية أعلى منها ،
يسعَون ليلاً ونهار ويجوبون الشوارع والطرقات ، بل حتى الذين يعملون بنبش القمامة ، دخلهم أفضل من زوجها العتّال.
ذات ليلة عاد إلى المنزل ، لم يرى الماء ساخناً كالمعتاد ، ولا الطبيخ جاهز ،
فقد اكتفت بتحضير البيض والزيتون والجبنة والشاي الذي كان يجب أن يتناوله على العشاء ، فسألها قائلا :
لماذا لم تسخني الماء ، وتحضري الغداء؟
ردت بغضب حاولت كبحه : كي لا يرتاح جسدك وتنام وتعيد يوماً من أيام السنوات السابقة.
لم أفهم؟
إقرأ أيضا: كنت أمشي في بعض أسواق دمشق
انفجرت بوجهه قائلة : ستذهب حالاً للبحث عن عمل بعد أن تتناول بضع لقيمات ، فأنا لم أعد احتمل حياة العبودية هذه ،
أي حياة ونحن بالكاد نملك قوت يومنا ، نحن في عداد الموتى.
ردّ بدهشة عارمة : ماذا أعمل يا ابنة الناس ، لا شهادة معي ، ولا صنعة بيدي ،
أبي لم يعطني فرصة لتعلم أي صنعة وأخرجني من المدرسة وأنا بالكاد أفكّ الكلمات ، فكان يقول إنّ مخي بليد.
صمت لحظات ثم تابع : أنا لا أتقاعس عن حمل أي شيء ، أحمل الأثاث والمفروشات المنزلية ،
وأحياناً أكياس الرمل والحجارة ، وصناديق الخضار والفاكهة ، فأعود منهكاً أتلهّف لعناق الوسادة ،
غير أن ما أجنيه يومياً ليس مبلغاً ثابتاً.
قلتَ لي ذلك مراراً وتكراراً ، ارحمني من أعذارك الخالية من المنطق ، من جدّ وجد ، إن أردت السعي فستجد.
بدأ الغضب يجتاحه : لا باب لدي للرزق الحلال ، لا طريق عندي سوى الحرام ، هل ترضَيْن أن أطعمكِ أنت وابنك حراماً.
إن لم تجد طريقاّ للحلال ، فالله هو الذي قدّر لنا الحرام ، وهل أصحاب الأموال جنوها بالحلال؟!
وأصلاً لا تسمي وارداً يعود عليك وعلى عائلتك بالرخاء حراماً بل هو عين الحلال ،
أليسَ حراما أنّ ابنك أتم العشر سنوات ، ويتمنى أن يشتري ما يحلو له ، لكنه محروم بسبب وضعنا المادي ،
غير أنه ترك الدراسة ونزل كي يتعلم مهنة النجارة على أمل تخفيف عبء المصاريف عنك.
جلس دقائق يتخَبّط بكلامها ، وتذكر مشورة صديقه بالعمل ، التي طابقت رأي زوجته ، فقال في قرارة نفسه :
بما أنَّ اثنان كلامهما عكس كلامي ، فمن المؤكد أني المخطئ ، وقد أغلق الله كل الأبواب في وجهي منذ صغري كي أسلك هذا الطريق وأجني المال.
ثم التفَت لزوجته وقال : ستحصلين على مبتغاكِ ، أمهليني للغد ، كي آتيكي بالخبر اليقين.
إقرأ أيضا: قطعة من الجنة
في صباح اليوم التالي ، ذهب إلى عمله وقابل صديقه كالمعتاد ، وفي الإستراحة بعد الأحمال الثقيلة قال لصديقه :
هل تتذكر عندما أخبرْتَني منذ بضعة أشهر ، عن الرجل الذي يعمل معه زوج أختك في تهريب المشروبات الكحولية ، وعلب السجائر؟
رد بصدمة عارمة : هل وافَقْتَ على العمل معه؟
نعم.
وأخيراً ، وجدتُ رجلاً يشبهني ، لقد شجعني قرارك فأنا متردد منذ بضعة أشهر وأنا أقول لنفسي ،
لماذا أسير بطريق الخطأ ولا أحيا كباقي الناس الذين أوضاعهم مشابهة لوضعي.
كما قالت زوجتي ، إن هذا الطريق قد كُتِبَ علينا.
دعك من هذا ، سنذهب معاً بعد العمل للقاء زوج أختي ، كي يجمعنا برجل الأعمال الذي سيقوم بتوظيفنا معه.
كانت تلك الليلة الأولى التي لا يعود بها زوجها إلى المنزل بوقته المعتاد ، وأسعد يوم بحياتها فقد أيقنَت أنّ بتأخيره سيأتي الخير معه.
عند اقتراب الساعة الثانية عشرة ليلاً ، دقّ ناقوس الخطر قلبها ، فبهذا الوقت يكون زوجها في سبات عميق ،
فأصبحت تتحرك يميناً ويساراً بأرجاء المنزل وتضربُ كفّيها ببعضهما : أخشى أن يكون قد حصل مكروه له.
وبعد بضع دقائق ، فتح الباب فهرولت إليه بلفهة لم يرى مثيلها منذ أول زواجهما ، فقالت له :
أخبرني لماذا تأخرت ؟ ماذا حدث معك ؟
انتظري كي ألتقطَ أنفاسي ، أحضري كأس ماء.
شرب الماء وجلس بضع دقائق ثم بدأَ بسرد ما حصل :
لقد قابلتُ أنا وصديقي الرجل الذي يعمل عنده زوج أخته ،
لكني دُهِشْتُ عندما قال صديقي أنّ زوج أخته على الرغم من أنَّ أوضاعه المادية جيدة من الأساس ،
ومع ذلك يسير بهذا الطريق منذ سنوات.
قاطعَتْه قائلة : أرأيت؟! هل صدَّقْتَ كلامي.
إقرأ أيضا: لقد ابتلاني الله بزوج بليد الجزء الثاني
دعيني أكمل ، تَنَفَّسَ الصعداء ثم تابع : سنعمل عند ذلك الرجل ، بحمل صناديق المشروبات الكحولية والسجائر المُهَرّبة ليلاً وبكامل السرية ،
سنسافر براً وأحياناً بحراً ، ربما تمر ليالي أباتُ بها في مدينة أخرى فلا تقلقي.
أقلقُ على ماذا عزيزي ، حمولة واحدة ستعود عليكَ بنقود تُعادِلُ حملَكَ شهراً لتلك الأشياء البالية.
لم يستطع النوم بتلك الليلة وهو يفكر بالرحلة التي سيبدأها في مساء اليوم التالي ،
غير تفكيره بلهفة زوجته عليه التي لم يراها قط ، وسيراها بعد ذلك العمل مراراً وتكراراً ،
أما هي فقد نامت وقلبها يتراقص فرحاً ، ورأت أحلاماً لم تراها قط ،
بأنها أصبحت سيدة ثرية ، تحيا بمنزل فخم ، وتلعب بالنقود.
أمضى النهار كله بنوم عميق ، كي يذهب للعمل الجديد عند حلول المساء بتركيز عالي ،
أما زوجته فقد التزمت الصمت والهدوء طوال اليوم كي توفّر له جواً مريحاً للنوم.
وعند حلول المساء ، ودّعته ودعت له بالسلامة لأول مرة في حياتها ، ثم حلّقت في أرجاء المنزل ،
كي تبدأ بأعمال التنظيف ، وتنتظر قدومه في الصباح مع النقود التي طالما حلمت بها.
يتبع ..