قصص منوعة

ما خلقكم لينساكم

ما خلقكم لينساكم

ولدت في عائلة على الرغم من فقرها لكنها مستورة الحال ، فأمي ربة منزل وأبي يعمل ليلا ونهارا بلا كلل وبالكاد يجني قوت يومنا.

ولأني كنت الإبنة الوحيدة لهما ، تمنيت أن أُنجب عدة أطفال من زوج حنون كأبي ،

وأحيا برضا وسعادة معه ، كما تحيا أمي ، إلى أن تحقق حلمي.

كنتُ أحيا مستورة الحال ، مستقرّة ومُطمَئّنة مع زوجي الذي لا أستطيع وصفه بالكلمات ،

فقد كان رجلا عطوفا متفهما كريما منذ أول زواجنا ، وبعدَ أن رُزِقنا بطفلين توأم ،

إزدادَت صفاته الحسنة ، فأصبحَ نِعْمَ الأب ، حنوناً ، مُحبّاً يمنع اللقمة عن نفسه ليعيطها لولديه.

بعد أن أتمَّ طفلينا الخمس سنوات ، حملتُ مرة أخرى ، فأحاطني بالإهتمام والرعاية بالأشهر الثمانية ،

وبكل شهر يمضي كان يضع يده على بطني ، ثم يقول ضاحكا :

إبنتي ، أريدُك شبه أمكِ بالجمال والحنان ، وأكثر منها إن إستطعتي.

جاء اليوم الذي كنا سنبدأ به العدّ التنازلي لاستقبالها ، أول يوم من شهري التاسع ، عاد بذلك اليوم من العمل مرهقاً ،

فطلب مني أن أُوفّر له جواً هادئاً لأنَّ رأسه يؤلمه وأن لا أنسى إيقاظه بعد ساعتين.

جلستُ مع طِفْلَي بصمت ، وكأنَّ لا أحد بالمنزل ، وبعد مرور ساعتين دخلتُ إليه لكي أوقظه ،

فإذا بجسده بارد مسترخ ، وكأنه دمية نائمة ، بدأتُ بهزّه ومناداته ، حبيبي ، حبيبي ، وقلبي يرتعش خوفاً ،

فقد كان يصحو من كلمة واحدة ، مما جعلني أضغطُ على قلبه بكلتا كفي ، ورفعتُ قدميه إلى الأعلى ، كما شاهدتُ في التلفاز ذات مرة ،

وعندما لم يبدي أيَّ حراك ، تساقطت دموعي من الذعر ، وأنا أكلم نفسي :

ماذا أفعل ؟! يا الله ساعدني.

إقرأ أيضا: الخاتم المكسور

لم يخطر ببالي سوى جيراننا ، فهرولت إليهم لعلهم يساعدوني في نقله إلى المستشفى ، أو حتى الإتصال بالإسعاف.

هرول جارنا وزوجته على الفور ، وبعد أن لامس نبض يده وتأكد من أنفاسه وضربات قلبه ، قال لي :
رحمه الله.

كاد قلبي أن يتوقف من الألم ، وشعرتُ بلحظتها ، كأنَّ المنزل إنهدم فوق رؤوسنا ،

1 3 4 10 1 3 4 10

ومت معه أنا وأطفالي ، توسّلتُ له أن يتصل بالإسعاف فقال:

لن تأتي سيارة إسعاف إلى بيت في قلب العشوائيات ، فسوف تضيع بأزّقتها ، لكن سأطلب المساعدة وأنقله إلى المشفى.

شعرتُ ببصيص أمل ، لعل فيه أنفاساً تنتظر الإنعاش ، فتركت طِفلَيَّ عند أولاد جارتي ، وهرولتُ معهما إلى المشفى ،

وقلبي يرجو الله أن يكون على قيد الحياة.

كانت المدة التي إستغرقناها للوصول كفيلة بأن تُنهي حياة أي مريض ينازع الموت ،

فما إن أدخلوه للإنعاش حتى خرجوا وأكدّوا وفاته.

شُلَّت قدماي عن الحركة ، فإذا بي ألطم وجهي وأصرخ :

يا الله ، لم يكن لنا معيل سواه ، يا الله كيف سنحيا من بعده ، لِمَ أخذته ولم ترأف بحال أطفالي.

لم يكن لنا أقارب كي أخبرهم ، فبعد وفاة والداي وأمه ، لم يتبقى سوى أبيه وأخته المتزوجة ،

وبعد أن أخبرتهما أتَيا مع زوج أخته ، وتمت إجراءات الدفن والعزاء وأنا مغيَّبة عن الوعي.

شعرتُ كأني في كابوس لا أستطيع الإستيقاظ منه ، ولم يمضي أسبوع حتى أتاني ألم المخاض ،

فتمنَّيتُ لو أفارق الحياة لألتقيه في الحياة الأخرى ، فإذا بأولادي لاحوا أمام ناظريَّ ،

فدعوت الله أن ألد بسلامة ، كي لا يبقى أولادي بلا أب وأم.

وضعتُ إبنتي ، ثم قبَّلْتها وغطَطْتُ في نوم عميق ، فإذا بزوجي يأتيني في المنام ويقول :

باركَ الله بابنتنا ، كأنها نسخة منكِ ، ولا تقنطي من رحمة الله ، فما خلقكم لينساكم.

إقرأ أيضا: في مدرسة سودانية أستاذ لغة عربية

صحوت بعدها ، ثم صرختُ باسمه ، وتساقطت دموعي ، فكم كنت أنتظر لحظة قدوم إبنتي وهو بجانبي ،

لأرى السعادة بعينيه وأحظى بحب وإهتمام مضاعَفَيْن ، مما جعلني لا أُلقي بالاً لذلك المنام إلا عندما تحقق.

ما إن استعدتُ قواي ، حتى عدتُ لمنزلي بعد أن تشكّرتُ أخت زوجي ، التي لم تُكَلّف نفسها عناءَ أن تطلب مني المبيت عندها أكثر ،

فكانت تراقب زوجها من أول دخوله المنزل للحظة خروجه خشية أن يتكلم معي أي كلمة.

شعرتُ برهبة في العودة إلى المنزل وزوجي ليس فيه ، وتمنيّتُ لو كان لدى والد زوجي منزلاً خاصاً به ،

لكنه باع منزله وأعطى نقوده لزوج إبنته كي يصرفها على تجارته ، وعاش معهما منذ ذلك الحين.

دخلتُ وفؤادي يبكي بصمت ، فقد تماسكتُ نفسي أمام طفلي ولأجل إبنتي ، فالحزن والدموع ربما يحرمانها من غذائها.

كانت أول ليلة بدونه ، أطول ليلة في حياتي ، جلستُ أفكر وأدعو الله من صميم قلبي ،

بأن يرزقنا ولا نحتاج لمخلوق ، مع أني كنت فاقدة الأمل فلا أجيد صنعة ولا أعرف عمل شيء ،

وحمدت الله بنفس الوقت أنَّ خزين الطعام الذي أُعِدُّه كل سنة لا يزال ممتلئاً ،

وأنَّ المرحوم كان قد وضع معي نقوداً أدخرها للأزمات.

مضت أياماً لم يسأل عني أحد إن كنتُ أحتاج لشيء ، حتى أخت زوجي وأبيه لم يسألا البتّة كما إعتدنا عليهما ،

فبدأ قلبي يرتعش خوفاً من أن أضطر للتسوّل وأصطحب أطفالي معي ،

فبتُّ أسهر ليالي أرجو الله أن لا أحتاج أحداً ، وذات يوم طُرِقَ الباب ، فإذا برجلٍ هيئته كانت كرجال الأعمال الأثرياء ، وقال لي :

أنا إبن جاركم الشيخ الكبير.

ثم إستأذنني لحظة ، وذهب لسيارته وأنزَلَ جارنا ، وعندما أقبلا نحوي ، صفَعْتُ جبهتي بصدمة وأنا أقول :

يا إلهي كيف نسيته؟! ، أعتذر أشدَّ الإعتذار ، فموت زوجي قد أعماني ، ونسيتُ أن أزور العم المسكين كما كنا نفعل أنا وزوجي.

فكادت جفون إبنه أن تتمزق من الدهشة ، وهو يقول :

رحمه الله ، لكن على ماذا تعتذرين ؟! إعتنائكما بوالدي كان من أخلاقكما الحسنة ، وليس من واجبكما.

إقرأ أيضا: قصة الحطاب الصدوق

دعوتهما للدخول ، وبعد أن أحضرت كأس ماء لجارنا ، بدأ إبنه بالحديث قائلا :

كنت أشعر بالإطمئنان على أبي على مدار سنوات بعد وفاة أمي ومرضه ، فقد كنتُ أتكلم معه يومياً ،

ويخبرني أنكما قد زرتماه واعتنيتما به لبعض الوقت.

فقد كان يرفض البتّة أن يترك المنزل ويعيش معي ومع زوجتي كونه قد سمع بأذنيه رفضها إقامته معنا ،

وطلبَتْ مني أن أُدْخِلَهُ دار المسنين ، ومع أني رجوته كثيراً ألا يكترث لكلامها أو يسمح لي أن أشتري له منزلاً جانب منزلي ،

لكنه أصرَّ على رفضه وقوله : أريدُ أن أموت ببيتي وعلى فراشي ، لكن منذُ أن إنقطعتما عنه ،

كان يتصل بي يومياً ويخبرني أنه يشعر بالوحدة وأنه يطرق بابكم يومياً بلا مجيب.

لم أستطع أن أزوره بالأسبوع سوى يوماً واحداً بحكم عملي ، مما جعلني أخبر زوجتي منذ بضعة أيام أني سأحضر أبي للعيش معي ،

وحاولتُ إقناعها بكافة الأساليب من ترغيب وترهيب كي لا تُلقي بالكلام المزعج على مسامعه كما فعلَت.

لكنها خيّرتني بين طلاقها وأبي ، طلقتها وأتيتُ لاصطحابه معي ، وقلتُ في قرارة نفسي ،

أن أطرق الباب عليكما للمرة الأخيرة لعلَّ أحدكما يفتح لي وأتشكّره على معروفكما ،

لكن بما أنَّ زوجكِ توفي فمن واجبي أن أردَّ معروفكما مع أبي ، وأدعوكِ برفقة أولادك للعيش معنا كمدبرة منزل.

فالمدبرة التي كانت تقوم بالطبخ والتنظيف ذهبت مع طليقتي ،

وبنفس الوقت تعتنين بأبي كما كنتِ تفعلي وتأخذي مرتّباً لتحضري إحتياجات أولادكِ ، لكن إن كنتِ غير موافقة فاحترم رغبتكِ.

حلَّق قلبي بأرجاء صدري ، ووافقت بنفس اللحظة ودموع الفرح تغمر عيناي ،

مما جعله يطلب مني أن أحزم أمتعتنا كي يأتي غداً بنفس الوقت لاصطحابنا.

أمضيتُ الليلة بفرح أنساني حزني وخوفي وألمي ، قمت بتجهيز كل شيء ، وفي الوقت المحدد ،

ما إن طرق الباب حتى فتحته بلهفة ، وقام بمساعدتي بنقل الحقائب.

إقرأ أيضا: أحد السجناء في عصر لويس الرابع عشر محكوم عليه بالإعدام

دخلتُ المنزل فشعرتُ براحة نفسية لا مثيل لها وكأنه منزلي الخاص ، ليتحقق ذلك بعد بضعة أشهر ،

فقد طلب يدي للزواج بحضور أبيه ، وأخبرني أنه لا يُنجِبُ أطفالا ، وأكَّدَ لي بحال رفضي لن يتغير شيء عليَّ وعلى أطفالي.

وافقتُ على الفور ، كوني لم أرى سوء خلق عليه طوال تلك الأشهر ،

غير محبتّه ورعايته لأطفالي وإحضاره طلباتهم وإحتياجاتهم كأنهم أطفاله ،

لدرجة أني لم اضطر ولا بشهر واحد أن أصرف كل مرتّبي.

تمَّ الزواج وعشتُ معه أجمل سنين حياتي ، برفاهية وغنى لم يخطر ببالي أني سأعيشها يوماً ما.

كَبِرَ أطفالي وهم ينادوه بأبي وبدوره كان نِعْمَ الأب والزوج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
× How can I help you?