متاهة الأشباح منزل وينشستر الغامض
درجت العادة منذ القدم على أن يستعجل الناس بناء منازلهم عسى أن تدفع عنهم حر الصيف وقر الشتاء وعيون المتطفلين.
لكن ما رأيك عزيزي القارئ في من يقضي عقودا متمادية من عمره في تشييد منزله ؟
لا بل ويصر على عدم إنجازه ويستمر في بناء المزيد من الحجرات والدهاليز على مدار الساعة إلى ما شاء الله من السنين ؟
هل هو مجنون ؟ أم إن لديه دافعا غامضا للإستمرار في البناء ؟
هذا ما سنعرفه من خلال قراءة هذه الحكاية الأغرب من الخيال عن السيدة وينشستير ومنزلها العجيب.
رغم قصر قامتها ، وضآلة حجمها ، إلا أنها تمتعت بموهبة خطف الأبصار والقلوب أينما حلت وارتحلت ،
كانت ساحرة بكل معنى الكلمة ، متعلمة ومن عائلة ميسورة وعازفة بيانو بارعة ، وقبل هذا كله كانت جميلة ومرحة.
ومن لا يعشق فتاة كهذه ؟
هذه هي سارة لوكوود باردي في ريعان شبابها ، أي قبل أن تصبح السيدة وينشستير. ،
ثم لاحقا الأرملة وينشستير ، تلك العجوز الكئيبة الغامضة التي ستشعر حتما ببرودة خفية تجتاح جسدك وتسري إلى أوصالك بمجرد إقترابك منها ،
وما بين سارة الشابة المرحة ، والأرملة ونشستر العجوز الكئيبة ، هناك حكاية طويلة طويت أولى صفحاتها في بلدة نيوهافن في ولاية كونتيتيكت الأمريكية.
السيد باردي وحرمه توقعوا بأن تحضي إبنتهم الحسناء بزوج ثري وحياة مترفة ، وقد شاطرهم هذا الرأي جميع من عرفوا سارة ،
نظرا لجمالها الخلاب ومزاياها العديدة.
وبالفعل تحققت آمال الجميع حين تقدم لخطبتها الشاب وليم ونشستر ،
إقرأ أيضا: في الثامنة والعشرين من عمري وقبيل زفافي بأيام
سليل عائلة ونشستر الغنية والمالكة لإحدى أكبر شركات السلاح في أمريكا آنذاك ،
والتي يعود الفضل في نجاحها وثروتها إلى إختراعها الجديد ، بندقية ونشستر شبه الآلية ،
التي حققت نجاحا باهرا في ستينيات القرن التاسع عشر خلال الحرب الأهلية الأمريكية والمعارك التي خاضها الجيش الإتحادي لطرد قبائل الهنود الحمر والإستيلاء على أراضيهم في الغرب الأمريكي ،
إذ مع كل إطلاقة وروح بشرية حصدتها البندقية كانت تجارة آل ونشستر تنمو وتزدهر!
وليم ونشستير وسارة باردي تزوجا في أيلول / سبتمبر عام 1862 وعاشا معا أربعة أعوام هادئة ملئها البهجة والسرور ،
ثم تكللت سعادتهما بولادة إبنتهما آني في عام 1866.
لكن أي سعادة تلك التي تدوم أبدا ؟ وأية حياة تلك التي لا تنغصها الأحزان ؟
ففرحة آل ونشستر لم تدم طويلا ، إذ مرضت آني بعد بضعة أسابيع على ولادتها وامتدت إليها يد الموت القاسية لتنتزعها بلا رحمة من بين أحضان والديها،
ومع رحيلها رحلت إلى الأبد تلك الحياة الهانئة الرغيدة التي إستمتع الزوجان بها لسنوات.
وقع الخسارة كان كبيرا وثقيلا ، خصوصا على سارة التي لم تستطع تحمل الصدمة فغرقت في دوامة من الحزن والكآبة ،
خبت في نفسها تلك الروح المرحة التواقة إلى الضحك والسرور ، وانزوت في حجرتها المظلمة تمضي وقتها في البكاء والنحيب ،
حتى تسلل جزء من ظلام تلك الغرفة الموحشة إلى جسدها واستوطن قلبها وعقلها فغدت أيامها بدون أي طعم أو معنى.
آل ونشستر لم ينجبا طفلا آخر بعد آني ، عاشا حياة رتيبة تحت وطأة الحزن ؛
لكن يقال بأن الزمن والنسيان كفيل بمحو الذكريات الأليمة ومداواة الجروح الدامية ،
وهكذا فإنه بعد مضي عدة سنوات على موت طفلتها ، بدأت سارة في إستعادة القليل من روحها القديمة.
لكن المؤسف أن ذلك لم يدم طويلا ، فبالكاد بدأت السيدة ونشستر تتعافى من أحزانها حتى عاجلها الدهر بفاجعة جديدة ،
هذه المرة أصيب زوجها وليم بمرض السل ، ولم يمهله المرض طويلا إذ فارق الحياة في يوم بارد كئيب من أيام شتاء عام 1880.
إقرأ أيضا: دخلت المرأة غرفة العمليات لتلد وبينما هي كذلك أدركتها المنية
وبموته بدأ هاجس غريب يسيطر على تفكير سارة التي أصبحت الآن تدعى باأرملة ونشستر ،
إحساس خفي أقض مضجعها وجعلها تؤمن في أن موت أحباءها لم يكن حادثا عرضيا ،
وفي مسعى للعثور على أجوبة شافية لتلك الهواجس القلقة ،
إلتجأت سارة لوسيطة روحية مشهورة وذائعة الصيت في ذلك الزمان.
الأرملة الحزينة جلست إلى طاولة خشبية صغيرة تتوسط غرفة موحشة ومظلمة ما خلا ضوء شمعة خافت ،
كان المكان غارقا في سكون وصمت ثقيل لم يبدده سوى كلمات الوسيطة العجوز التي زعمت بأن تمكنت من إحضار روح وليم ونشستر ،
ولتأكيد هذا الزعم راحت العجوز تصف لسارة شكل وليم وبعض خصاله حتى تيقنت هذه الأخيرة بأن روح زوجها الراحل متواجدة معهم في الغرفة.
العجوز تكلمت على لسان وليم ، أخبرت سارة بأن هناك لعنة شريرة تطارد العائلة سببها آلاف الأرواح التي لاقت حتفها بطلقات بنادق ونشستر التي كانت مصدر ثراء ورخاء العائلة ،
وبأن تلك الأرواح الغاضبة تسببت في موته وموت إبنتهم آني وبأنها ستطارد سارة أيضا حتى تنال منها.
ولكي تتجنب سارة ذلك المصير الأسود فإن عليها أن تبيع جميع أملاكها ثم تسافر باتجاه غروب الشمس ،
بحثا عن منزل جديد ستميزه وتعرفه ما أن تراه لأن روح وليم ستكون دليلها ومرشدها خلال تلك الرحلة.
“يجب أن تبدئي حياة جيدة” .
همست الوسيطة العجوز بصوت خافت أشبه بفحيح الأفعى ثم أردفت قائلة :
“يقول وليم بأن عليك أن تبني منزلا كبيرا لنفسك ولجميع الأرواح التي سقطت بسبب السلاح الرهيب ،
لا يمكنك التوقف عن البناء أبدأ ، تذكري ذلك جيدا ، إذا استمررت بالبناء ستعيشين ، وإذا توقفت ستموتين.
إقرأ أيضا: يحكى أن تاجرا ركب رأسه الغرور فكتب على باب دكانه
حين غادرت سارة منزل الوسيطة الروحية في ذلك المساء ، كانت مؤمنة تماما بأن ما قالته العجوز خلال جلسة تحضير الأرواح هو حقا كلام شبح زوجها الراحل وليم ،
لذلك لم تلبث أن باعت جميع أملاكها في نيوهافن ثم يممت وجهها صوب الغرب الأمريكي في رحلة طويلة وشاقة انتهت بها إلى كاليفورنيا ،
هناك قادتها الصدفة ، أو ربما حدسها ، إلى منزل خشبي تحت الإنشاء يتألف من 8 غرف ،
سارة أحست بأن هذا هو المنزل المنشود وبأن روح زوجها هي التي قادتها إليه ، وبغض النظر عن حقيقة هذا الإحساس ،
إشترت سارة المنزل والأرض المحيطة به من مالكه الطبيب روبرت كلادويل وشرعت في الحال في عملية بناء طويلة ستستمر لعشرات السنين.
سارة ونشستر سكنت المنزل مع خدمها حتى قبل أن يكتمل بناءه ، ومنذ أن حطت ركابها في رحابه ،
لم تتوقف أبدا أصوات المطارق والمناشير وغيرها من أدوات البناء ،
كانت هناك ورشة عمل تتألف من 22 نجارا محترفا يعملون باستمرار لمدة 24 ساعة يوميا ، 7 أيام في الأسبوع ، 365 يوم في السنة.
لم يكن هناك أي توقف ، حتى أثناء تناول الطعام كانوا يتناوبون لكي يستمر العمل ،
وفي مساء كل يوم كانت سارة تعطي توجيهاتها لما سيفعلونه خلال الأربع والعشرين ساعة اللاحقة ، لم تكن هناك خرائط أو رسوم ،
كان كل شيء يجري عفويا ، ولم تبالي سارة أبدا لإنفاق المال لأنه لم يكن يشكل عقبة بالنسبة لها ،
فتركة زوجها بلغت زهاء العشرين مليون دولار – قرابة نصف مليار دولار في هذه الأيام
– إضافة إلى حوالي 1000 دولار – 22000 دولار بقيمة هذه الأيام – يوميا كنسبة ثابتة وغير خاضعة للضرائب من أرباح مصانع أسلحة ونشستر.
إقرأ أيضا: عند المساء عاد واستأجر غرفة في الفندق المجاور لمنزله
ويوما بعد آخر توسع المنزل وأارتفع بنيانه ، كلما أكملوا قسما شرعوا في بناء قسم جديد ، وكلما أنهوا طابقا شيدوا فوقه طابقا آخر ،
حتى بلغ إرتفاعه سبعة طوابق ، وهو بالطبع إرتفاع شاهق بالنسبة لمنزل خشبي ،
أما في الداخل فقد تشكلت بمرور الأيام متاهة ضخمة يمكن أن يظل الإنسان طريقه فيها بسهولة ،
إذ لم يقتصر الأمر على سعة البناء وعشوائيته ، لكن الأرملة ونشستر عمدت عن قصد إلى بث العديد من الفخاخ والخدع في أرجاء المنزل.
فمثلا يوجد في المنزل 47 سلما ، والعديد منها لم تكن سلالم عادية ، لأنها كانت تفضي إلى جدار مسدود ،
أو ينتهي السلم الصاعد بآخر نازل!
هناك أيضا ما مجموعه 476 بابا ، الكثير منها لم تكن أبوابا تقليدية ، فبعضها تفتح على جدران صماء وأخرى تقودك إلى هاوية ترمي بك خارج المنزل ،
وأحيانا قد تفضي بك إلى غرف مشابهة فيها باب واحد أيضا وتلك الغرف تقودك إلى غرف أخرى وهكذا ،
دواليك حتى يجد الإنسان نفسه ضائعا في متاهة من الغرف والأبواب المتطابقة.
شبابيك المنزل لم تكن أقل غرابة ، فأغلبها يفتح على غرف أخرى أو على جدران صماء ،
أما الدهاليز والممرات فالعديد منها ينتهي بجدار مسدود أو يجعلك تدور في متاهة من الدهاليز والأبواب المغلقة.
الطريف أنه حتى الخدم وعمال البناء كانوا يضلون سبيلهم بسهولة داخل المنزل ،
ولهذا كان العديد منهم يستعين بخارطة ليجد طريقه الصحيح.
لكن لماذا صممت الأرملة ونشستر متاهة كهذه في منزلها ؟
سلالم لا تؤدي إلى أي مكان وأخرى تنتهى بجدار مغلق.
في عام 1906 سقطت ثلاثة من طوابق المنزل السبعة بسبب زلزال لوس أنجلوس المدمر وتركت بدون ترميم ،
لأن الأرملة ونشستر ظنت بأن الكارثة التي حلت بالمنزل سببها عدم رضا الأرواح على سير العمل فيه!
إقرأ أيضا: العرق دساس
العمل في منزل ونشستر إستمر لستة عشر عاما أخرى ، ولم يتوقف إلا في صباح يوم 4 أيلول / سبتمبر عام 1922 ،
ففي ذلك اليوم لم تستيقظ سارة ونشستر من النوم ، عثر عليها الخدم جثة هامدة في الفراش ،
ماتت بهدوء أثناء نومها عن عمر 83 عاما ، وطبقا لوصيتها التي كانت تتألف من 13 فقرة ومذيلة بـ 13 إمضاء ،
فقد أوصت بنقل جثتها إلى مسقط رأسها في نيوهافن لتدفن إلى جوار قبر زوجها وليم وابنتهما آني ،
أما ثروتها وجميع ما تملك فقد تركته لابنة شقيقتها فرانسس ماريوت التي أدارت أعمالها لسنوات طويلة ،
وفي الحقيقة بعد 38 عام من البناء والهدر المستمر للأموال لم يكن قد تبقى الشيء الكثير من ثروة سارة ونشستر.