مساعدتي في المنزل سيدة ريفية جميلة فوجئت بحملها وهي في الأربعين من عمرها ،
أرادت التخلص من الجنين ولكن الشيخ أكد لها أنه حرام إذا لم يكن هناك سببا طبيا ، فرضخت وأكملت الرحلة.
إستمرت في عملها معظم شهور الحمل بكل ضمير ،
وكان يذهلني قدرتها على بذل المجهود دون شكوى رغم إلحاحي عليها بأن ترتاح أو أن تأخذ إجازة خاصة.
وقد تذكرت فترة حملي والتي كنت أرقد فيها كثيرا وأحتاج من يخدمني دائما ، ولكني رأيت منها قوة لا أراها عادة بين بنات جيلي.
شاء الله أن تتدهور حالتها الصحية في الشهر الثامن ، ورغم كل المحاولات لتثبيت الحمل ،
جاءت الطفلة إلى الدنيا قبل ميعادها وكانت من المصابين بمتلازمة داون مع عدة أعراض صحية خطيرة.
بعد أيام قليلة فقدت طفلتها للموت.
فتوقعت أنها ستحتاج لوقت طويل لتتعافى من تجربة صعبة جدا ، تصورت أن الإكتئاب بأي درجة شيء حتمي في حالتها.
ولكنها فاجئتني مرة أخرى وقد عادت بعد أسبوعين طالبة العودة للعمل ،
فأعطيتها مرتب شهر وطلبت منها أن تأخذ وقتها حتى تستعيد توازنها ،
ولكنها صممت أن تعود للعمل رغم إلحاحي ، وقالت أنها تحتاج الحركة أفضل من القعدة.
في الأيام التالية كنت أراقبها ، أحاول محاورتها لأفهم كيف لم تهزها هذه التجربة ولو لبرهة من الوقت؟
كيف تحافظ على هذا التوازن ومن أين لها القدرة العظيمة على الإرتداد سريعا والعودة للحياة؟
من أين لها هذه الطاقة؟ ولكني لم أجرؤ على سؤالها مباشرة أبدا.
ولكن مع بداية رمضان ، جاءت تروي لي أول صلاة لها في التراويح في المسجد ،
وكيف أنها سجدت لله وهي تبكي وتتذكر إبنتها وتشكره.
تركتها تسترسل ، فقالت : تعرفي ، وأنت بين يدي الله تبدو الدنيا هينة وصغيرة ، وتشعرين بأمان ،
أعطاني الله طفلة وتعلقت بها ثم أماتها لتدخلني الجنة!
ولم يبقيها لأنه يعلم مقدرتنا المادية ، هو الرحيم ، كان يمكن أن أموت بدلا منها فيتعذب جميع أولادي.
أنا راضية ولم أرجو من الدنيا إلا حسن الخاتمة وأن يبارك لي في أولادي الآخرين.
إقرأ أيضا: كنت أمشي في بعض أسواق دمشق
لفت نظري في حكايتها أكثر من جانب :
أولا : هي سيدة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة ولكنها تفهم حقيقة العقيدة ،
تعلم أنها مختبرة ، تستقوي بالله الذي تؤمن بحبه لها ،
نجحت في إختبار الرضا والصبر فأغلقت الباب على كل منافذ الإكتئاب والسخط.
العقيدة وضعت معنى ومغزى وسبب للألم فأصبح محتمل.
ثانيا : عادت سريعا للحياة لتعمل ، وهذه من روشتات علاج الإكتئاب أن تشغل نفسك بشيء منتج ، وألا تستلم للرغبة في فعل اللاشيء.
ثالثا : عملها يعتمد على تحريك عضلات الجسم كافة ، وذلك مرتبط بإفراز الإندورفين وهو من هرمونات الشعور بالسعادة ،
كما أنها تمشي لمسافات طويلة يوميا ، مما يزيد من إفرازه ويقلل مستوى التوتر كثيرا.
رابعا : تفكيرها سليم ، فهي لم تفكر فيما خسرت فقط ، ولكنها تذكرت نعم الله الأخرى التي تستوجب الشكر ،
فلم تسود الدنيا في عينها بسبب فقدان واحد ، لم تشك في رحمة الله.
تفكيرها لم يشوبه خطأ التفكير المتطرف ذا الأبيض والأسود.
ترى الخسارة وترى النعمة.
وكأنها أعطت الجميع درسا في التعامل مع صعاب الحياة ؛ تفكير منضبط ، عقيدة سليمة ، قدرة على الإرتداد ومجهود بدني سليم.
أما عن جيلنا المصاب بالهشاشة النفسية والبعد عن الله وفقدان المعنى ،
فقد أعيته كثرة المعلومات التحليلية النفسية وأصبحت ذريعة للإستسلام في كثير من الأحيان.
فأصبح يحتمي ببعض الدراسات العلمية ليحمي هشاشته ويبرر ضعفه ورفضه لتقبل الألم كجزء من تجربة الحياة.
وأصبحت طريقة حياته المعتمدة على الآلة والآخرين عامل مساعد على الإكتئاب ،
فالإنسان يحتاج للحركة يوميا! ولا يحتاج لهذا الأسلوب الكسول من الحياة.
هذه السيدة أكثر حكمة وتنويرا من معظمنا ، فهي لا تعلم شيء عن إكتئاب ما بعد الولادة ،
أو إضطراب ما بعد الصدمات ولا أي مصطلح علمي ، ولكنها تفهم وتعي حقيقة الدنيا.
نعم ، الوفرة ، الدلال والفراغ بيئة ينمو فيها السخط والإكتئاب بقوة.