من أشرس معارك التاريخ مؤتة
من أشرس معارك التاريخ مؤتة
اصطف المسلمون في مؤتة وقد إقتربت ساعة الصفر لأشرس موقعة في التاريخ ،
حيث أمواج بشرية كبيرة من البيزنطيين ونصارى العرب تنساب إلى أرض مؤتة ،
ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في وجه أقوى قوة في العالم آنذاك.
وها هي قد إرتفعت صيحات التكبير من المسلمين ، وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه ،
وأعطى إشارة البدء لأصحابه ، وقد إندفع كالسهم صوب الجيش البيزنطي ، وكان قتالاً لم يشهد المسلمون مثله قبل ذلك.
إرتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات ، وما عاد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم ،
ولا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين ،
أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعا إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة الإسلام.
وقد سالت الدماء في أرض مؤتة ، وتناثرت الأشلاء في كل مكان ، ورأى الجميع الموت مرارا.
إستشهاد زيد بن حارثة رضي الله عنه
كانت ملحمة بكل المقاييس ، سقط على إثرها أول شهيد للمسلمين في المعركة ،
وهو البطل الإسلامي والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه ،
حِبّ رسول الله صل الله عليه وسلم ، سقط مُقبِلا غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة بدأت مع الأيام الأولى لنزول الوحي.
إستشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
حمل الراية بعد زيد بطل آخر هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، ذلك البطل الشاب المجاهد إبن الأربعين عاما آنذاك.
فحمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة ، وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله ،
وأكثر رضي الله عنه الطعن في البيزنطيين حتى تكالبوا عليه.
إقرأ أيضا: إن الدين عند الله الإسلام
كان جعفر رضي الله عنه يحمل راية المسلمين بيمينه فقطعوا يمينه ، فحملها بشماله فقطعوا شماله ،
فحملها رضي الله عنه بعضديه قبل أن يسقط شهيدا ، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -كما جاء في البخاري :
وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل ، فعددتُ به خمسين ، بين طعنة وضربة ، ليس منها شيء في دبره :
أي : ليس منها شيء في ظهره – يعني أنه قاتل دائما من الأمام لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه.
إستشهاد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
حمل الراية بعد جعفر رضي الله عنه عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه ،
ذلك المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات وجاهد بسيفه ولسانه ،
وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة ، بل يُقتل شهيدًا في أرض الشام .
حمل الراية وقاتل قتالا عظيما مجيدا حتى قتل في صدره رضي الله عنه.
سقط القادة الثلاثة شهداء ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية ،
وأن الإمارة تكليف وليست تشريفا ، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية.
فثباتهم لا شك فيه كان سببا في ثبات الجيش الإسلامي ، وجهادهم لا بد أنه قد دفع الجيش الإسلامي لأن يُخرِج كل طاقته ،
فما يفر الجنود إلا بفرار القادة ، وما تسقط الراية إلا بهوانها على حاملها ،
لكن في مؤتة ما سقطت راية المسلمين قط ، ولا لحظة من لحظات القتال.
بعد إستشهاد البطل العظيم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، حمل الراية الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البدريّ ( ممن شهد بدرًا ) رضي الله عنه ،
فقال : يا معشر المسلمين ، إصطلحوا على رجل منكم.
إقرأ أيضا: قصة سيدنا إسحاق عليه السلام
فقالوا : أنت تحمل الراية.
فقال : ما أنا بفاعل.
ثم تقدم إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه القائد المعجزة فدفع له الراية.
وقال له : أنت أعلم بالقتال مني.
فقال خالد رضي الله عنه متواضعًا ( وكان عمره في الإسلام ثلاثة أشهر فقط ) : أنت أحق بها مني ، أنت شهدت بدرا.
فاجتمع الناس على خالد وأعطوه الراية ، فحمل خالد الراية وجاهد جهادا عظيمًا يُكفِّر به عن العشرين سنة الماضية.
هذا أول مواقفه في سبيل الله ، ولا بد أن يُرِي الله عز وجل منه بأسًا وقوة وجلدًا وإقدامًا ،
قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبل.
حتى قال كما في صحيح البخاري : لقد إنقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.
تسعة أسياف تكسرت في يديه رضي الله عنه وهو يحارب الروم ، فتخيل كم من البشر قتل بهذه الأسياف ،
ومع ذلك فقد إستمر في قتاله يُغيِّر سيفًا بعد الآخر ، ويقاتل في معركة ضارية ،
لكنه ثبت ثباتًا عجيبًا ، وثبت المسلمون بثباته رضي الله عنه.
إستمر القتال يومًا كاملاً ما تراجع المسلمون فيه لحظة واحدة ، وإنما وقفوا كالسد المنيع أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية.
واستمر الحال على هذا الوضع حتى جن المساء.
ولك أن تتخيل قتالاً منذ الصباح وحتى المساء وثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف!
خطة خالد العبقرية
لم يكن من عادة الجيوش في ذلك الوقت أن تقاتل ليلاً ، فكان أن تحاجز الفريقان واستراح البيزنطيين ليلتهم هذه ،
لكن المسلمين لم يركنوا إلى الراحة ، وإنما كانوا في حركة دائبة.
إقرأ أيضا: إنصافا لبني أمية المفترى عليهم
فقد بدأ داهية الحروب خالد بن الوليد رضي الله عنه في تنفيذ خُطَّة عبقرية بارعة للوصول بجيشه إلى برِّ الأمان ،
وكان هدفها إشعار الروم بأن هناك مددًا كبيرًا قد جاء للمسلمين ،
وذلك حتى يتسلل الإحباط إلى داخل جنود الروم والعرب المتحالفين معهم ،
فهم أمس كانوا يتقاتلون مع ثلاثة آلاف وقد رأوا منهم ما رأوا ، فكيف إذا جاءهم مدد ؟!
ولتنفيذ هذه الخطة قام خالد بن الوليد رضي الله عنه بالخطوات التالية :
أولا : جعل الخيل طوال الليل تجري في أرض المعركة لتثير الغبار الكثيف فيُخيَّل للرومان أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين.
ثانيًا : غَيَّر من ترتيب الجيش ، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة ، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة.
وحين رأى الروم هذه الأمور في الصباح ورأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيَّرت أيقنوا أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين فهبطت معنوياتهم تمامًا.
ثالثًا : جعل في خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعة من الجنود المسلمين فوق أحد التلال ،
منتشرين على مساحة عريضة ليس لهم من شغل إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين.
رابعا : بدأ خالد بن الوليد في اليوم التالي للمعركة بالتراجع التدريجي بجيشه إلى عمق الصحراء ،
الأمر الذي شعر معه الرومان بأن خالدًا يستدرجهم إلى كمين في الصحراء ، فترددوا في متابعته ،
وقد وقفوا على أرض مؤتة يشاهدون إنسحاب خالد ، دون أن يجرءوا على مهاجمته أو متابعته.
ونجح مراد خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء ،
ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالمًا.
المصادر :
تاريخ الطبري.
البداية والنهاية / إبن كثير.
صحيح البخاري.