من عجائب قصص العدالة الإلهية قصة مُنَوَّر خانم
حدثني العم الفاضل سليمان الحفيان ، والد الأخ الشيخ عمر الحفيان ، عن قصة جارته المسنَّة منوّر خانم – رحمها الله – من عدة سنوات ، وأقيد ما حفظته من القصة بالمعنى.
هذه المرأة كان والدها من الوُجهاء الأثرياء ، كان مُفتيًا للواء الجيش العثماني في حمص أو حماة ،
وتزوجها ابن أحد الولاة العثمانيين ، من ذَوي الإقطاع والثراء ، وكانت المرأة وحيدة أبويها ، وكذا زوجها.
توفِّي والدها فورثته ، وتوفِّي والد زوجها فورثه ، ثم توفِّي الزوج دون أن يكونَ لهما ولد ، فورثتِ الكل ،
وصار عندها أراضٍ ، وإقطاعات شاسعة.
ولما حصل التأميم منذ عدة عقود ، أُخذتْ أراضي الإقطاعيينَ ، فَذَهَبَ أكثر أملاكها ،
ولكن القليل الذي بقيَ كان شيئًا كثيرًا منَ الأراضي.
سكنتْ هذه المرأة في دِمَشق ، في منطقة مساكن برزة في شقة ، ولم يكنْ لها موردٌ إلاَّ كل مدة ،
تبيع جزءًا من أراضيها ، وتنفق على نفسها ، وعندما يقلُّ ما في يدها تبيع أرضًا أخرى ، وهكذا.
ونظرًا لوَحْدتها ، وعدم وجود ذرية تؤنسها ، فقد قامتْ بكفالة إحدى الفتيات اليتيمات مدَّة منَ الزمن ،
ولما كبرت منوَّر خانم ، كان جيرانها يخدمونها في حاجياتها ؛ ومنهم محدِّثي العم سليمان ،
وكان أسفل شقتها صاحب محل (بقالة) تشتري منه ، ويوصِّل لبيتها الأغراض.
وذات يوم طلبتْ منَ المحل بعض الأغراض ، فجاءَها صاحبُ المحل ، ودخل بالأغراض ،
فقالتْ له : اجلس حتى أُضَيّفَك فنجانًا منَ القهوة ، وقامتِ العجوز – وهي على عتبة التسعين منَ العمر – للمطبخ تُعِدُّه له ،
فلعب الشيطان بالبائع ، ووسوس له أن ينتهزَ الفرصة ليسرقَ أموالها.
لحقها إلى المطبخ ، وخنقها بطوق الذهب الذي ترتديه دون مقاوَمة ، وفتَّش البيت ، ولم يجدْ إلا مبلغًا زهيدًا جدًّا منَ المال ، فأخَذَهُ وانصرف.
بعد يوم أو أكثر افتقد الجيران جارتهم العجوز ، واستغربوا عدم إجابتها ، وفتحها الباب ،
وكان ذلك سببًا لكشف الجريمة ، وتمَّ التحقيق مع الجيران ، ومنهم العم سليمان ،
ولم يلبثْ أنِ انكشف المجرم ، وتطابقتْ عليه الأدلة ، واعترف.
إقرأ أيضا: كان يقبع في محبسه والأغلال في قدمه
لكنه وكَّل أحد شياطين المحامين ، فاستطاع تدبير تقرير طبيٍّ للمجرم بأنَّه مختلٌّ عقليًّا بدرجة خطيرة ،
وبعد جلسات في المحكمة أُطلق سراحه ؛ لكونه غير مسؤول عن فعله.
ورجع المجرم لحياته المعتادَة حرًّا طليقًا ، وبقيَ على ذلك سنوات طويلة ؛ ولكن لم تنتهِ القصة هنا.
تذكرون تلك اليتيمة التي ربَّتها المغدور بها ، لقد كبرتْ ، وعلمتْ بالقصة ، فتبنَّتِ الموضوع ،
وأعادت رفع القضيَّة على المجرِم بعد أنِ اطمأنَّ تلك المدة الطويلة ، وكانت حجتها القوية :
إن كان المجرمُ مجنونًا بتلك الدَّرجة المثبتة في التقرير ، فمكانه ليس بين الناس العقلاء ؛ حتى لا يرتكب الجرائم ؛
بل في مستشفى المجانين ، وإن كان عاقلاً فلا بُدَّ منَ القصاص.
وفعلاً لم يكن أمام المجرم إلاَّ التشبُّث بالخيار الأول ؛ فرارًا منَ العقوبة ، فتمَّ إيداعه مستشفى المجانين.
وهناك كان المجانين باستقبال النَّزيل الجديد ، وتحلَّقوا حوله يسألونه : ما الذي أتى بك إلى هنا؟
فقال لهم بكل صراحة : أنا قتلتُ إمرأة عجوزًا ، وقلتُ عن نفسي : إنني مجنون ؛ لأهرب من العقوبة ،
ولكن بسبب ذلك جاؤوا بي عندكم ، هذه قصتي.
فاستغرب المجانين ، واجتمعوا فيما بينهم ، وإذا بهم يحيطون به ، ويقولون : أنت مجرم قاتل ، ولا بد من محاكمتكَ ، سنحاكمك الآن.
فشَكَّلُوا محكمة فيما بينهم ، وحكموا عليه بالإعدام شنقًا ، وربطوا عنقه بالملابس ، وهو لا يقدر على الفرار منهم ،
ولم يُجْدِ الصراخ والاستنجاد ، وشنقوه.
وفي اليوم التالي ، لَمَّا أراد الطاقم توزيع الطعام ، وجدوه مشنوقًا ، فقالوا : مَن قتله؟
قال المجانين : نحن شنقناه؛ لأنه مجرم قاتل ، فسألوا الحارس المناوب ، فقا ل: لَمْ أميزْ صراخه عن صراخ باقي المجانين المعتاد.
إقرأ أيضا: هو حر لوجه الله!
فذهبتْ نفسه هدرًا ، وهكذا جاءه القصاص العادل من حيث لم يحتسبْ ، ونشرت الجرائد خبره وقصته العجيبة.
فيا سبحان الله! كيف لم يَضِعِ المعروف في تلك اليتيمة ، ولم يضع الحقُّ طوال تلك السنين.