هو حر لوجه الله!
روى أحمد بن يوسف الكاتب في كتابه الرائع “المكافأة وحُسن العقبى”، أنَّ أبا حبيب المقري قد ضاقت به الحال في بلده ،
ولم يبقَ عنده إلا جارية له وبيته.
فباع البيت بألف دينار ، وجعل المال في حزام على وسط الجارية ، وخرج إلى مكة!
وكانت الجارية إذا نزلوا في الطريق حفرت في أرض الخيمة حفرة وخبأتْ المال ، فإذا أرادوا الانصراف أخذته.
ثم إنها نسيت أن تفعل ذلك مرة ولم تنتبه إلا وهم على مشارف مكة ، فلما علم أبو حبيب بالأمر ضاقت عليه الدنيا ،
وعاد إلى حيث كانت الخيمة ، فبحث فلم يجد شيئا ، ووجد هناك غلاماً يرعى ، فقال له : يا عم تبحث؟
فقال : شيئاً أودعته في الأرض.
فَقال له: صفه لي.
فًقال : كيس أحمر فيه ألف دينار.
فقال له : ما ليَ إن دللتُكَ عليه؟
قال : نصف ما فيه!
فأخرج الغلام الكيس وقال له : خُذْ مالك يا عم ، أنتَ أولى به ، وأنا لا أتقاضى نظير أمانتي!
فقال له أبو حبيب : أنتَ حر أم عبد؟
فقال له : عبد لسيد هذا الحي!
فذهبَ أبو حبيب عند سيد هذا الحي ، وعرضَ عليه شراء العبد مع القطيع ، ليعتقه ويعطيه القطيع.
فقال له سيد الحيِّ : ولِمَ تريد أن تفعل؟
فحدثه أبو حبيب بالذي كان بينهما.
فقال له سيد الحي : تفعل هذا لمعروف واحد صنعه معك ، ولا أفعل أنا لمعروف يصنعه معي كل يوم ،
باركَ الله لكَ في مالكَ ، فأنت له أحوج ، وهو حر لوجه الله ، والقطيع له!
ليس بالضرورة أن تردَّ المعروف ولكن كن أرقى من أن تنكره!
الذي يصنعُ المعروف عادةً لا يطلبُ مكافأة ، ولكن نكران المعروف موجع ،
والنبيل إذا أُسديَ إليه معروفا ، بقي يقظاً متنبها ، متحيناً الفُرص لرده.
ومن أجمل ما قالت العرب : من أحسنَ إليكَ فقد استعبدكَ!
إقرأ أيضا: جبر الخواطر
ومنه استقى أبو الفتح البستي بيته الشهير :
أحسِنْ إلى الناس تستعبد قلوبهم
لطالما استعبدَ الإحسان إنسانُ
ثم إن الغنى غنى النفس لا غنى المال ، والقناعة في العين والقلب ، لا في المحفظة والجيب ،
وإنك لتجد بعض الفقراء حامداً الله على ما أعطاه حتى لتعتقدَ أنه أوتيَ مالَ قارون ،
وتجد بعض الأغنياء يشكو حتى لتعتقد أنه لا يجد رغيف خبز يسدُّ به جوعه!
وإنّك لتجد بعض الفقراء إذا وجد محفظةً أعادها ولم يقبل نظير أمانته مكافأة ،
وتجد بعض الأغنياء يحتكر الدواء والغذاء ، ما همه لو هلكَ الناس ، المهم أن تتضاعف ثروته.
على أن ليس كل فقير حامد صابر خلوق ، ولا كل غني جشع ، ولكن القناعة مع الفقر ملفتة ، لهذا كان الكلام.