هيثم المجنون!
هيثم المجنون!
هكذا يلقبه أهل الحي وهكذا ينادونه ، الكل يتجنبه ويفر منه وينزعجون لمجرد التفكير فيه إلا أنا ،
كنت دائما أفكر به وأنزعج لو غاب ذكره عن ذهني للحظات!
دعني أخبرك القصة من البداية ، رغم أنني لا أعلم صحتها إلا أن جميع أهل الحي يتداولونها هكذا.
الكل يُجمع على أن هيثم المجنون هذا كان شابا أنيقا حسن الخُلق والخِلقة يدرس في كلية الطب ،
إلى أن مرضت والدته بمرض خطير يحتاج علاجه لآلاف مؤلفة فاضطر الفتى لترك الجامعة لبعض الوقت بحثا عن المال. ،
في محاولة رحيمة منه لتخفيف آلامها وتوفير مصاريف المعيشة له ولأخته الصغرى.
والتي صدمتها سيارة طائشة عند عودتها من المدرسة ذات يوم فتوفيت على الفور!
هنا جن جنون الفتى وساءت حالته وفُصِل من عمله.
وأخيرًا عندما أفاق من صدمته ، لم يقبل به أحد عاملا عنده سوى مكانيكي الحي ،
وكالعادة كان الفتى دائم التغيب عن العمل لانشغاله بأمر علاج والدته.
فما كان من صاحب العمل ذات مرة إلا أن قذفه بآلة حديدية في يده ، ولم يتحمل هيثم الإهانة ،
عندما لمح حفنات متواصلة من الدماء تسيل على خديه وجبهته ،
فما كان منه إلا أن أمسك بالرجل حتى كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه لولا أن تدخل أهل الحي!
وزُجَ بهيثم إلى السجن محكوما عليه بقضاء ستة أشهر فيه ، وفي النهاية خرج منه مجنونا بعدما توفيت والدته ،
ولم ينجح الفتى الطبيب في تشييع جنازتها أو حتى طبع قبلة أخيرة على رأسها!
هيثم لا يكف عن نزع ملابسه في الحي ، وطلب شطائر الجبن وقذف الحصى في وجوه المارة ،
فبات الجميع يضيق بتصرفاته إلا أنا كنت أبكي لها.
كلما لمحته وهو ينزع ملابسه فيلعنه الناس ويقذفونه بالقاذورات أخذتني به الشفقة ،
ماذا لو كانت الظروف في صفه بدلا من أن تكون ضده هكذا؟
كان من المفترض أن يكون طبيبا ناجحا ، يرتدي نظارة طبية ، يملك بيتا دافئا وأسرة جميلة وسيارة.
إقرأ أيضا: كان خارجه ذهبا
ربما كان يعالج أهل الحي الذين يقذفونه بالحصى هؤلاء مجانًا صدقة على روح أمه.
أووووه لا بد أن أساعده .. ماذا لو كنتُ مكانه ، بالتأكيد كنت سأحتاج لأن يأخذ أحدهم بيدي.
قررت أن أمُدَ يد العون فإما أن أنجح وإلا فيكفيني أنني حاولت ،
لكن ماذا سيقول الناس عن فتاة تذهب إلى شاب عار لتستره؟!
بالتأكيد سيلعنونني أنا الأخرى.
أوووه ليذهبوا إلى الجحيم ، في النهاية أمسكت شطيرة جبن في يد وفي الأخرى قميصا واسعا ،
واقتربت منه وسط ذهول الجميع لكنه اقتنص شطيرة الجبن من يدي وألقى بالقميص!
وفي اليوم التالي كررت ما فعلته بالأمس ، لكنه كالعادة إلتهم الجبن وألقى بالملابس ولم أمل من محاولة ستره ،
عسى أن يسترني الله يوم أن تنكشف عورات جميع الخلائق.
وفي اليوم السابع سألني هيثم للمرة الأولى عن إسمي فأجبته ليلى فقال : ألبسيني القميص ولا تنسي غدًا شرائح الجبن.
ووسط ذهول الجميع وذهولي أنا أيضا ساعدته على إرتدائه فطبع قبلة سريعةً على رأسي قائلًا لست ليلى ،
أنا أعرفك إنك أروى أختى ، فبكيت.
الفتى يبدو أنه عاقلا بحاجة لبعض التأهيل النفسي فحسب ،
لو تركت أمره لظل مجنونًا حتى آخر عمره ولو حاولت مد يد العون بمجهود أكثر ربما إسترد عقله.
لكن من أين لي بأموال علاجه ، ثم ماذا سيقول عني أهل الحي؟!
مالها وللمجنون.
لن يتفهم المجتمع القاسي شفقتي عليه ورحمتي به ،
فهذه أمي قد ضاقت بتصرفاتي ذرعا حتى باتت تنعتني أنا أيضا بالمجنونة وأقسمت عليَّ أن أبتعد نهائيًا عنه.
قررت أن أبر قسمها فلهيثم رب يرعاه ويشفيه.
إقرأ أيضا: في يوم من الأيام كان هناك شاب كريم الخلق والمظهر
تجنبت أماكن وجوده واعتزلتُ شرفتي نهائيًا ، ووَأدتُ كل خاطرٍ يأتي به إلى عقلي حتى سمعت طرقات سريعة على باب منزلنا ذات ليلة ،
وإذا بالطارق شاب عار من ملابسه يسأل في براءة حقيقية عن أخته أروى والتي لم يكن يقصد بها إلا أنا ،
طردته أمي لكنه لم يمتثل واجتاز الباب إلي ونطق بكلام كثير لم أفهم منه حرفا واحدا لكنني شعرت به.
وتجمع الجيران وضربوه ضربا مبرحا فاختفى لأيام لم أدخر فيها جهدًا للبحث عنه ،
بكيتهُ كثيرًا وكأنه فعلًا أخي وتقاذفتني الظنون فرحت أسأل عنه في الطرقات والمشافي وكل أبنية النيابة.
إنتهت قصة هيثم ، مر على غيابه عامان لكن لم تنتهِ قصته في قلبي ، إنني أحبه!
إكتشفت ذلك بعد رحيله ، كِدت أجن بحثًا عنه لكن كأن الأرض إبتلعته.
لم أنسَ يومًا أن أدعو له ، ولم أتخلف عن المرور بالأماكن التي كان يجلس فيها ولو ليوم واحد ،
عامين لم أنسَ فيهم ذلك المجنون فأصبحت أمي تنعتني أنا بالمجنونة!
بعد أيام وصلتني دعوى لحضور حفل تخرج إحدى دفعات كلية الطب ،
ما علاقتي أنا بهذا ومن صاحب الدعوى بالتأكيد هناك شيء خاطىء لن أذهب.
يكفيني ما أنا فيه من شتات لست بحاجة لأمر آخر يشتت تفكيري.
وفي اليوم المحدد ، هاتف خفي دفعني لأذهب ، ما الذي سأخسره إن ذهبت واحتفلت معهم ،
رؤية السعداء تبعث السعادة في النفس وأنا بحاجة لهذا.
أثناء الحفل لم أدري لم يلاحقني طيف هيثم في الغالب لأنه من المفترض أن يكون هنا يكرم مع أطباء مثله ،
لا أن يزج به في السجون ويركض عاريا في الشوارع!
شَحَ الهواء حولي وباغتني تفكيري به فقررت الإنصراف واتجهت خارجة دون حتى أن يبدأ الحفل.
وفي طريقي إلى الخارج تناهي إلى أذني صوت أحدهم يهتف :
قبل أن نبدأ الحفل لنستمع إلى كلمة الطالب الأول “هيثم عاصم البغدادي”!
والتصقت قدماي بالأرض ، مستحيل إنني واهمة.
إقرأ أيضا: للمتزوجين والقادمين على الزواج
الوهم هو من صور لي ما سمعت ، وجاء الصوت الآخر الذي أعرفه جيدًا :
عاجز عن قول أي شيء سوى أنني أهدي نجاحي هذا للفتاة التي تقف هناك في آخر القاعة متأهبة للإنصراف.
إنها ليلى جارتي فيما مضى ، الوحيدة التي أشفقت على شابٍ مجنون جائع عار يقذفه الناس بالحصى.
الوحيدة التي مدت يد العون فبترها الناس وقدمت الرحمة فعاقبها المجتمع عليها.
لا أظن أن أحدكم يفهم القصة لكن يكفيني أنها تفهم ، أحبُكِ ،
وأهدي نجاحي لكِ ولكل من رأى منكرًا فحاول أن يغيره دون أن يضع وزنا للناس وللمجتمع وللتقاليد ،
ولكل من يتعامل برحمة في زمن القسوة هي سيدة الموقف فيه.