وحيدة في الصحراء الجزء الثاني
وحيدة في الصحراء الجزء الثاني
بعدما رحل الملك مع قومه ، تسلل رجل وراءهم ، واقتفى خطاهم من بعيد ، ولمّا وصلوا إلى أرضهم بعد قضاء شؤونهم ،
إدعى ذلك الرّجل أنّه طبيب يعرف سرّ الأعشاب ، وبدأ يسأل كلّ شخص يداويه عن القبيلة وملكها وأحوالها ،
ولم يطل الأمر حتى علم أنّ سيّدهم ليس له بنات ولم يرزق إلا بولد واحد رغم زواجه من ثلاثة جواري ،
وحين سأل عن بنت شقراء ، قالوا له : لا علم لنا بها ، وقد تكون هي وأمها من ركاّب السّفن الأروبية ،
التي يستولي عليها القراصنة في البحر.
إكتفى الرّجل بما جمعه من معلومات ، ورجع ولما أخبر المرأة وبناتها بما سمعه ، رموا له بصرّة مال كبيرة ثمّ إستدعت إبنها ،
وحكى له الرجل ما رآه ، وسمعه ، فوجم برهان زوج شيماء ، وسأله هل أنت متأكد من كلامك؟
فأجابه : نعم! وسأحملك إلى تلك القبيلة فأنا أعرف مكانها الآن.
بعد إنصراف الرجل ، قالت الأمّ لإبنها ، والآن بعدما إتضح كل شيء لا بد أن تطلق شيماء ،
وتطردها من القرية حافية القدمين كما جاءت ، وسأزوجك أجمل البنات!
لكن الولد فكّر قليلا ثم قال في نفسه : ذلك يعني نهاية المكانة التي وصلت إليها بفضل تلك البنت ،
ثم إني أحبها ، ولا يهمّني من تكون.
ثم سأل أمه بالله عليك أخبريني عن سبب حقدك عليها ، فماذا فعلت لك ، ولأخواتي؟
صاحت الأمّ : يا لك من حقير! تتزوج من بنت لا نعرف أصلها ، وفوق كلّ ذلك تبرع في الكذب ،
الله وحده كم من مرة كذبت علينا ، رد الولد : أتركيني وشأني ، هذا جوابي ، ثم إنصرف ، وقد لاح عليه الهمّ ،
لكنه كان متأكدا أنّ شيماء وراءها سر كبير ، ولا بدّ أن يعرفه ، ولما رآها قال لها :
هل ذلك الرجل حقا أبوك؟ أجابت بثقة : نعم!
إقرأ أيضا: يحكى أن رجل أعمال ذهب إلى بنك في مدينة نيويورك
هو أبي ولو واصلت الإستماع للإشاعات ، فسأنصرف ولن تراني أبدا ، لا أنا ولا إبنك ،
صاح الفتى من الدّهشة إبنك! ردّت: أبشر يا برهان ، إني أنتظر مولودا ، فلا تفسد علينا فرحتنا.
مشى إليها وضمّها إلى صدره ، وقال لها : كل ما أعرفه أني أحبّك ، وهذا هو المهمّ ، وغدا سأخبر الشيخ مختار ليضع حدّا لألسنة السّوء.
لمّا سمعت أخواته خبر المولود جنّ جنونهنّ ، وقلن لا بد من التخلص من شيماء قبل أن تلد ،
وعوضا أن تمنعهنّ امهنّ شجّعتهن ، وقالت : سأرسل لها جرّة من حليب الإبل ، وأعصر فيه نباتا سامّا يقتلها لساعتها ،
أما نحن سنكون في ذلك الوقت بعيدا عن القرية.
في الصباح جاءت عجوز إلى دار شيماء بعد إنصراف زوجها ، وقدمت لها حليبا وفطيرا ، فجاء كلبها ،
وأخذ يدور حولها بسرور فصبت له حليبا في صحفته ، وما كادت تبتعد حتى تمدد على الأرض ،
وبدأ يئنّ ثم مات ، لم تفهم البنت ماذا يحدث لكنها لما نظرت إلى الحليب رمته على الأرض ، وصاحت لقد حاولوا قتلي ،
لم يعد لي هنا مقام ، ثم أخذت قربة ماء ورغيفا ، وغادرت القرية ، دون أن تعرف أين تذهب.
ولما رجع زوجها وجد الكلب ميتا والدار فارغة ، كاد يغمى عليه ،ثم خرج يبحث عنها ،
أما شيماء فمشت طول النّهار حتى تعبت وتورمت قدماها ، فجلست تحت شجرة وهي تمسح عرقها ،
ولمّا نظرت إلى القربة وجدتها فارغة ، ليس فيها قطرة ماء واحدة ، فقالت في نفسها :
سأرتاح من هذه الحياة فقد تخلى عني أبواي ، وأنا في أمسّ الحاجة إليهما ، لماذا فعلا ذلك؟
بدأت الشّمس تغرب ، فوضعت البنت رأسها على الأرض ، وأغمضت عينيها ،
وفجأة سمعت صوتا رخيما يغني ومعه أصوات أخرى ، قومي ولا تستسلمي قدرنا أن نعيش
مكاننا ليس في الأرض أو السّماء ،
إقرأ أيضا: أراد رجل أن يبيع بيته وينتقل إلى بيت أفضل
لكنّه هنا عامر بالحياة إن سكنت الأرض ،
أو تموّج الهواء.
أحسّت البنت بقطرات ماء على شفتيها ووجهها ، وبرائحة الزهور ، فنظرت حولها بدهشة ، فرأت مخلوقات شفافة جالسة حولها ،
وبالقرب منها واحدة في يدها زهور برية مليئة بالنّدى ، فابتسمت لها شيماء ، وقالت : لا تتركيني يا أمّي أرجوك ،
فحضنتها الجنية بحنان ، وقالت : هذه المرّة لن يفرّق أحد بيننا!
سآخذك معي إلى مملكتي ، هناك لا يوجد لا المرض ، ولا الظلم ، ولا الحقد ،
أجابت شيماء : لي زوج أحبّه ، وأب ، وأخ لماذا الفراق يا أمي؟ لماذا لا نجتمع معا ؟
أجابت : بالنسبة لأبيك فلقد أوصيته بحفظ سرّنا ، لكنه تكلم وسمع قومي ، وخيروني بين الذهاب معه أو الرّجوع ،
فاخترت البقاء معهم ، أمّا هو فقد كان متزوّجا من إنسيّة ، ولم يقدر أن يأتي بك بعد أن عرفت قبيلته الحقيقة ،
ولهذا تركتك صغيرة في طريق القرية ، وكنت أحميك من بعيد حتى جاء ذلك الشّيخ صالح وأخذك.
سكتت الملكة ، ومسحت دمعة نزلت على خدها ، ثم واصلت الحديث :
وكنت أضع في طريقه مالا وطعاما ، لكي يقدر أن ينفق على عياله ، وأنت معهم ،
في تلك اللحظة سمعا صوت برهان زوج شيماء وهو يصيح ويبكي ، فقالت البنت لأمها : تعالي وعيشي معنا ،
فلقد سئمت من ألسنة السوء.
فكرت ملكة الجن وقالت هذه المرّة لن أقوم بنفس الغلطة ، وسآتي معك وأرى أطفالك ،
فجأة شاهد برهان زوجته جالسة مع جنيات جميلات فتشجع واقترب منهنّ ، وصاح متعجّبا : هل هذا أنت يا شيماء؟
أجابت :نعم ، وملكة الجنّ هي أمّي! وستأتي معنا إلى القرية ، في الطريق سمعوا أصوات خيول كثيرة ،
ولمّا توقّفوا لينظروا من القادم ، هتفت شيماء بفرح : إنّه أبي ملك قبيلة مصمودة ، وحين سألته عن سبب قدومه ،
إقرأ أيضا: عاش في أحد الأيام مزارع كسول لم يكن يحب العمل
أخبرها أنّ هناك من إتّبعهم ، وعرف بفراسته أنّ الأمر يتعلق بشيماء ،
وأنّ أحدا ما يريد الكيد لها ، فجاء لمساعدتها ، ومعرفة من أرسل الرّجل وراءه.
تعجّب الملك لرؤية زوجته الجنّية مع إبنته ، وفرح لمّا علم أنّها ستبقى معها ،
فقال لها : سأبني دارا كبيرة أجعلك فيها مع الخدم والحشم ، ولن نفترق بعد الآن ، وسمع كل أهل القرية ،
برجوع شيماء مع والديها ، فجاءت أمّ برهان إلى الرّجل الذي أرسلته ، وقالت له : ويحك كيف فاتك أمر الجنية التي تزوّج منها الملك؟
فقال : وكيف لي أن أعلم بذلك بعد أن إختار أهل القبيلة السّكوت عن ذلك ؟
قالت له : سأعطيك ما يكفي من المال ، وترحل من هنا ، لا أريد أن يراك الملك هل فهمت ؟
أجاب : أنا صياد ولا أعيش في مكان واحد ، لن يعرف أحد بما دبّرناه ثم أخذ المال وانصرف.
قالت المرأة لبناتها لم تبق إلا العجوز ويجب أن تصمت ، قالت أحد البنات : سنسقيها سمّا ونخلص منها!
لكن الأمّ أجابت : سيجلب هذا الإنتباه ، سأذهب للساحرة لكي تصنع لي شيئا يذهب العقل ، وأضعه في قلة مائها.
وفي الغد لاحظ أهل العجوز أنّها بدأت تنسى حتى أنها لم تعد تذكر حتى إسمها.
مضت أيّام لم يحدث فيها ما ينغّص حياة شيماء التي انتقلت مع زوجها ووالديها إلى دار واسعة في طرف القرية ،
وصار لهم قطيع كبير من الإبل ، وتساءل الجميع من أين جاءهم كلّ هذا المال؟
وأحد الليالي ألحّت أخت برهان الكبرى عليه لتعرف السّر ، ولم يتمالك لسانه ، فأعلمها أنّ ملكة الجنّ تعرف مكانا مليئا بالياقوت ،
وكل مرّة تذهب وتعود بصرّة صغيرة ، ولما أخبرت أمّه ، أجابتها : وماذا يعنيني من الأمر!
قالت لها : نتبعها ، ونعرف مكان الكنز ، حكّت المرأة رأسها وقالت : هذه آخر مرة أسمع فيها كلام أحد بناتي فبسببكم ارتكبت كثيرا من الإثم ،
وظلمت تلك الفتاة شيماء.
إقرأ أيضا: مساعدتي في المنزل سيدة ريفية جميلة
قالت ابنتها : ونحن ألم يظلمنا الزّمن الذي حرمني أنا وأختي من الجمال؟
كلّ النّاس معجبة ببياض لونها وعينيها الفاتحتين ، أمّا نحن فلا أحد ينظر إلينا.
قالت الأم : الله له حكمة في كلّ شيء ، لكن المؤكد لو عرفنا مكان الياقوت فهذا سيساعدك أنت وأختك على الزّواج من رجل غني.
بقيت الأم والأخوات يراقبن ملكة الجان حتى خرجت في أحد الأيام ، وذهبت إلى الغابة ، وأخذت تمشي حتى بلغت جبلا عاليا ، ثم اختفت.
جرت الأختان إلى حيث دخلت الجنية ، وفجأة خرج لهما جنّ ، وسألهما : ماذا تفعلان هنا ؟
لكنهما صمتتا ، فقال سأحولكما إلى تمثالين عقابا لكما على دخول أرضنا.
انتظرت الأمّ ، لكن لم تأت لا ملكة الجن ولا ابنتيها ، فأحسّت بالقلق عليهما ، وقالت : يا ليتني لم أسمع كلامهما ،
وصعدت إلى الجبل، فوجدتهما تمثالين ، فأخذت بالصّراخ والبكاء ، ثم رجعت إلى دارها وهي لا تعرف ما تقول.
وأخيرا لمّا جاء ابنها برهان قصّت عليه كلّ ما حدث بسبب الغيرة من شيماء ، وكيف سمعت كلام بناتها.
وكانت تنتظر أن يغضب منها ، لكنّه قال : سأكلم شيماء ، وهي التي تقرّر مصير أختاي ،
وإن كنت أعتقد أنّهما تستحقان العقاب ، ولمّا علمت شيماء طلبت من أمّها أن تسامحهما وقالت لها : المسامح كريم ،
وعسى أن يكون ذلك لهما درسا ، فوعدتها أن تفعل ذلك من أجلها ، وفي الغد ذهبت إلى الجبل ، وفكّت عنهما السّحر ،
ولمّا رأت وجهيهما فهمت سرّ غيرتهما من شيماء ، فقالت لهما :أغمضا عينيكما!
فتردّدت البنتان ، واعتقدتا أنّ الملكة تنوي بهما شرّا ، لكنّها ابتسمت لهما ، ففعلتا ما طلبته منهما ، ولمّا فتحتا عينيهما ،
ورأت كل واحدة منهما الأخرى بدأتا في القفز والصّراخ من شدّة الفرحة فقد أصبح شعرهما المجّعد رقيقا كالحرير ،
وعينيهما الضّيقين كعيون المها ، وحين رأتهما أمّهما لم تصدّق عينيها ، وحاولت أن تعتذر لكن الملكة قالت لها :
كلنا نخطئ ، والعاقل من تعلم من أخطائه ، هاك صرة ياقوت لتشترى لهما ما يحبّان من الثياب والعطور.
وفي الغد لمّا سمع أعيان الحيّ بما حصل تسابقوا لخطبة البنتين ، وزادت محبّة أهل تلك القرية ،
وما جاورها من القرى لشيماء ، وحكى النّاس لزمن طويل عن تلك اليتيمة التي عانت من قسوة الناس وألسنتهم ،
وأصبحت سيّدة البادية ، وأرفعهم نسبا ، وفتحت دارها للأيتام وربتهم كأبنائها ،
وكانوا ينادونها أمي ، وبارك الله في تلك الفتاة ، وعمّرت طويلا ، وكانت الأرض التي عاشت عليها الوحيدة التي لا تبكي فيها عيون الأيتام.